رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


السوق المالية بين التكلفة التاريخية والقيمة العادلة «2»

في المقال السابق تحدثت عن الفرق بين القيمة التاريخية والقيمة العادلة عند تقييم أصول والتزامات الشركات المساهمة وعن قرار هيئة السوق المالية تقييد العمل بالقيمة التاريخية، وانتهى المقال إلى استعراض تجربة السوق المالية الأمريكية مع القيمة العادلة، وكيف انهارت الأسواق. فهل كانت القيمة العادلة سيئة إلى هذا الحد؟ الإفصاح المحاسبي مشكلة بشرية، بدأت منذ زمن بعيد، ففي اجتماع لمجلس المعايير الدولية قدم أحد الخبراء ورقة عن الفرق بين التكلفة التاريخية والقيمة العادلة، وقد بدأ كلمته بعبارات مثيرة جدا، فالإفصاح المحاسبي هو الذي تسبب في إشعال فتيل الثورة الفرنسية قبل عدة قرون. فعندما عينت فرنسا في عام 1777 وزيرا للمالية، قام الوزير حينها بإعادة تنظيم الضرائب في البلاد ثم في خطوة غير مسبوقة لتعزيز الإفصاح المحاسبي قرر إصدار نشرة عن المالية العامة للدولة، وقد تسبب هذا الإصدار في زوبعة ضخمة من المناقشات في كل المناسبات، تسببت في مشاكل لا حصر لها، لم يكن السبب في تجربة الإفصاح نفسها ولكن لأن أحدا لم يكن مهيأ بما يكفي لفهم واستيعاب الأرقام المحاسبية التي نشرت وقد أخذت على علاتها، كانت المفاهيم هشة تماما وتسببت النشرة المالية أخيرا في إعفاء الوزير من منصبه. ومن يتتبع الحوادث الهائلة التي أصابت العالم والانهيارات المالية الضخمة يجد أنها كانت بسبب فشل في فهم وقراءة الأرقام المالية بطريقة صحيحة. ولن نذهب بعيدا ففي عام 2000 استخدمت شركة إنرون ثغرة بسيطة في المعايير المحاسبية الأمريكية من أجل إخفاء ديون سيئة جدا، كان الوضع نظاميا إلى حد بعيد من وجهة نظر الأرقام لكنه كان كارثيا عند نقطة اتخاذ القرار. من السهل أن تجمل القوائم المالية لكن هذا التجميل يتحول لحركة جناح الفراشة في نظرية الفوضى التي قد تنتهي بإعصار في الجانب الآخر من الأرض. هنا أتفهم تماما تحفظ السوق المالية على استخدام القيمة العادلة التي قد تستخدم لتجميل القوائم المالية من خلال تحسين قيم الأصول، وبالتالي حقوق الملكية ومن ثم تغيير نسب هيكلة الحقوق، فقد تبدو حقوق الملكية ممتازة من ناحية رقمية محاسبية، لكن عندما تتخذ المصارف قراراتها بإقراض الشركات ثم تظهر حقائق القيمة العادلة المفزعة بعد حين، فإن الكارثة ستكون هائلة.
ما يميز القيمة التاريخية أنها متحفظة تماما، خاصة إذا كنا في اقتصادات تتضارب في أمواج التضخم، فالأسعار دائما في ارتفاع، نظرا لمفهوم القيمة الحالية للنقود، ففي ظل هذا المفهوم، فإن الأسعار في المستقبل ستكون أعلى، وبينما يصر محبو القيمة العادلة أن يظهر أثر هذا في القوائم المالية، فإن محبي القيمة التاريخية يريدون أن تبقى كما هي على الأسعار القديمة خاصة في أصول ليس لدى الشركة نية في بيعها، بل هي تقتنيها للاستخدام. فعندما تريد الشركة إعادة تقييم أصولها المستخدمة بالقيمة العادلة، فإنها تريد استخدام هذه الأرقام المحاسبية لأمر ما وهذا هو المقلق في الموضوع ككل. وإذا كانت نية إدارة الشركة استخدام القوائم المالية وليس الأصول الفعلية، فإن المعول عليه حينها هو وعي المجتمع وقدرته على قراءة القوائم المالية والتفريق بين قرارات تمت بناء على قيمة عادلة (مجرد تقدير فني للقيمة السوقية للأصل) وبين قرارات بيع حقيقية، هذا الوعي هو مشكلتنا في المملكة، فنحن نعرف أن مهنة التقييم والتثمين لم تزل جديدة على السوق السعودية، (كمهنة منظمة) ولم يزل هناك عديد من المشاكل في المعايير الخاصة بالتثمين، ولهذا فإن الأرقام قد تتعرض لسوء التقدير، بينما الشركة تريد القوائم المالية، وفقا للقيمة العادلة ليس من أجل مزيد من الإفصاح، بل لتوجيه قرارات المستثمرين المحتملة هنا نقع في ورطة كبيرة، التحفظ هنا أولى في نظري رغم كفاءة القيمة الحالية كمفهوم.
القيمة العادلة أتت إلى عالم المحاسبة بسبب ضغوط أهل الاقتصاد، فهم يرون الأرقام التاريخية غير دقيقة في تقديم تصور حقيقي عن المركز المالي للشركة، لكن إذا تأملنا في رأيهم وجدناه يهتم بصورة يتخذ عليها قرارا بالبيع أو الشراء، وليس مجرد معلومة لفهم الواقع ومؤشرا فقط، هنا مشكلة القيمة العادلة، فهي مثلها مثل القيمة التاريخية تمثل مؤشرا وليس مصدرا للقرار لا تشوبه شائبة، القيمة الحالية لا يمكن اعتمادها كمصدر موضوعي للقرار لا يمكن رده، وهذا هو الفخ الذي وقعت فيه المصارف الأمريكية في كارثة 2008، فعندما ارتفعت أسعار العقارات ظهرت حقوق الملكية لهذه المصارف مرتفعة جدا في مقابل ديون قليلة وهذا منحها حق إصدار سندات بضمان العقارات، لكن الجميع نسي أو تناسى أن أسعار العقارات مجرد مؤشر وليست سعر ضمان للبيع، وعندما صححت العقارات أسعارها تهاوت المصارف. وهذا هو الفرق بين أن تقرأ القوائم المالية كمؤشر وبين أن نعتبر أرقامها حقيقة لا جدل فيها. القيمة التاريخية هي كالقيمة العادلة مجرد مؤشر لكن القرار الذي يتخذ مع القيمة التاريخية أقل ضررا من القرار الذي يتخذ مع القيمة العادلة، خاصة في الأصول الثابتة والأصول غير الملموسة. بهذا يفهم تماما قرار هيئة السوق المالية في الحد من استخدام خيار القيمة العادلة حتى تصبح السوق العقارية أفضل ويخف الغموض الذي يكتنفها اليوم، وحتى تتهيأ مهنة التثمين في المملكة، ويتم فهم الفرق بين القيمتين العادلة والتاريخية وأن القوائم المالية مجرد مؤشرات أداء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي