مجتمعات عابرة للقوميات .. الهجرة تنتصر لروح التحدي البشري
"كل عملية نزوح فردية تعد نصرا لروح التحدي البشري والإصرار على البقاء، وتجسيدا للشجاعة والابتكار في التغلب على قيود البيروقراطية التي يفرضها الأغنياء المتوجسون"، بهذه الجملة علق أحد السياسيين الأوروبيين ممن يناصرون مسألة فتح الحدود واستقبال المهاجرين واللاجئين في رحاب أوروبا؛ على رفاقه ممن يعتبرون سياسات بلدانهم في موضوع الهجرة أصل كل الشرور التي تواجهها القارة اليوم.
يتوقف المتابع عن كثب للنقاش السياسي والأكاديمي الدائر حاليا في مواقع صناعة القرار بالعواصم الأوروبية، ومعها المنصات الأكاديمية في كبريات الجامعات والمراكز هناك، عند حقيقة مفادها اختلاط المواقف الذاتية الأخلاقية بالمواقف الموضوعية العقلانية حول الهجرة على نحو مربك. لدرجة بات معها فصل هذا النقاش عن مواضيع أخرى من قبيل الفقر، القومية، العنصرية.. أمرا عصيا جدا.
على هذا الأساس يصعب الحديث عن أي نقاش عقلاني حول التعامل مع الهجرة، إلا بعد فك الارتباط بين هذه المسائل المتشابكة حد الامتزاج، وتجاوز ثنائية أو شعار "نحن" و"هم" عند أي محاولة للتعاطي مع الموضوع.
#2#
خصوصا أن النتائج المتوصل إليها حديثا في مجال العلوم الطبيعية، تفيدنا في تفنيد الأساطير التي تتأسس على الاعتقاد بوجود اختلافات وراثية بين الأعراق والشعوب؛ إذ بات مؤكدا اليوم أن مثل هذه الادعاءات أقرب إلى الخرافة منها إلى فرضية علمية قابلة للبرهنة والإثبات أو النفي والدحض. فالفقر يتعلق بالدخل الاقتصادي وليس بالأصل والوراثة، ثم إن الفقر الجماعي الموجود إلى جانب أحدث صيحات التكنولوجيا التي تستطيع أن تجعل الناس العاديين سعداء؛ إنها الفضيحة الكبرى التي تسائلنا، والتحدي الذي يواجه عصرنا.
احتدام النقاش في كواليس أجهزة الاتحاد الأوروبي، خلف الأبواب الموصدة للحكومات هناك تفرضه تداخل مجموعة من العوامل منها ما يعلن عنه، مع بقاء أغلبيتها طي الكتمان:
أولا: إن مفهوم الدولة القومية لم يعد صالحا للحاضر، من منظور نخبة من المثقفين وكذلك الشباب في الكثير من البلدان الأوروبية. إذ عملت الحداثة على تعليق الهوية بين عمودي النزعة الفردية وهجوم العولمة؛ فالكثير من الأفراد ينظرون اليوم لأنفسهم باعتبارهم أفرادا لا ينتمون إلى مجتمعهم أو إلى ما يحيط بهم، بل كمواطنين ينتمون إلى العالم.
ثانيا: تدريجيا بدأ الوعي يكبر بخصوص الأركان الأساسية للدولة (السيادة، الإقليم، الشعب)، فالحقبة الراهنة تعلن بداية نهاية طيف "البلد كشعب" التي تم تكريسها من خلال خطوتين مميزتين: مفهوم أن الجماعة هي المهمة، وليس الفرد فقط. ومفهوم أن البلد هو الوحدة الأساسية لتنظيم المجتمع. والسبب وراء ذلك راجع بالأساس إلى الارتباك الحاصل لحظة النشأة الأولى لهذه المفاهيم؛ إذ المفهوم الأول فكرة ترتبط عادة باليسار السياسي، بينما المفهوم الثاني فكرة ترتبط باليمين السياسي.
ثالثا: تتجه معدلات الولادة السنوية في بعض البلدان الأوروبية نحو تسجيل أرقام سلبية، فبعدما كان الأمر حكرا على ألمانيا التي شهدت في السنوات الأخيرة الماضية انخفاضا في عدد السكان. التحقت بها إسبانيا التي سجلت وفي سابقة تاريخية، عدد وفيات أكبر من عدد الولادات السنة الماضية، وفق ما أعلنه المعهد الوطني للإحصاء مرفوقا بتكتم شديد عن الموضوع. أما دولة من طينة السويد فلم تتردد في القيام بحملة دعاية من أجل الإنجاب بشعار "أنجب تنقذ وطنك" بعد عجز كل الإغراءات المالية والتحفيزية التي تقدمها للمواطنين لحثهم على الإنجاب.
رابعا: الهرم السكاني لأوروبا بالخصوص والغرب بوجه عام يتجه نحو الشيخوخة، إذ تظهر الإحصائيات أن أهرام ثلث البلدان الأوروبية مقلوبة (قاعدة ضيقة وقمة واسعة) ما يجعل الحاجة ماسة إلى المهاجرين للتغطية عن هذا العجز الذي يطول الساكنة النشيطة، فلا بديل أمام أوروبا إن أرادت تعويض كبار السن في الدورة الاقتصادية سوى استقبال المهاجرين. زيادة على أن هؤلاء هم الحل الوحيد لملء النقص في المهارات التي تشهده عديد من الأقطار هناك.
هذه بعض من الحقائق الحارقة التي يرفض الغربيون الإفصاح عنها عند حديثهم عن مسألة الهجرة، فالواقع القائم أمام أعينهم عكس الأماني التي تراودهم في عالم المثل الذي يعيشونه.
بصيغة أخرى نقول، ما يزال جزء مهم من المجتمع الغربي، وفي مقدمتهم الطبقة السياسية، تعيش على وهم الأمجاد الإمبراطورية الأوروبية التي نشرت "التحضر" و"المدنية" في الأركان الأربعة للعالم. وأكذوبة صفاء العرق الآري، ونخوة الرجل الأبيض المصطفى بين بقية الأعراق البشرية التي تعيش على وجه هذا الكوكب.
غير أن الواقع الاقتصادي والمتغيرات الاجتماعية والأرقام الديمغرافية بهذه البلدان ترفض هذه الأوهام ضاغطة في اتجاه قومية عابرة للحدود، وانتماء للإنسانية بعيدا عن أي توصيف عرقي أو ديني أو قومي أو جغرافي.
نعم لقد دشن العالم منذ عقود موجة مد ديمغرافي جديد بسبب الحروب والمجاعات والأوبئة وغير ذلك من العوامل، موجة سوف يكون لأوروبا النصيب الأكبر من نتائجها في المقبل من السنوات. صحيح أن المسألة تسير ببطء قياسا إلى وتيرة التغيير في باقي مناحي الحياة، لكن نتائجها قادمة لا محالة ولو بعد حين، الفارق الوحيد هو في التقدير الزمني، فإذا كنا نعتمد المدى القصير (السنوات) في الحساب الزمني للمتغيرات اليومية التي نعيشه، فالأمر يتحول في مثل هذه المجالات للمدى المتوسط أي إلى عقود زمنية حتى نكون أمام مجتمعات عابرة للقوميات أساسها الانتماء للإنسانية.