إعادة بناء جامعة الدول العربية
نعتبر المنظمات الدولية التي تشتغل في حقل السياسة والعلاقات الدولية، ممثلة لحكومات الدول الأعضاء فيها، وليست ممثلة لشعوبها، وهناك من الأسباب القانونية والموضوعية ما يؤكد كلامنا هذا، فالنصوص في مواثيق المنظمات تنص على قواعد قبول انتساب الدول إليها من خلال الحكومات لا من خلال الشعوب أو ممثليها، فمثلا الحكومات هي التي تتقدم للمنظمات بطلب العضوية، وحينما تطرح إدارة المنظمة على الجمعية العمومية طلب الدول الراغبة في الانضمام إلى المنظمة، فإنها تطرح اسم الدولة، وإذا منحت الجمعية العمومية للدولة حق الانضمام، فإنها تعلن قبول الدولة ممثلة في حكومتها، ولذلك تشارك الدول الأعضاء من خلال ممثليها الحكوميين في كل فعاليات وأنشطة المنظمة، فمثلا مؤتمرات القمم يحضرها رؤساء الدول بصفتهم رؤساء حكوميين لدولهم، كذلك هناك تشكيلات للمجالس الوزارية ومنها المجلس الوزاري الذي يتكون من وزراء الخارجية، وهؤلاء جلهم موظفون حكوميون، وكذلك هناك عدد كبير من المجالس تتشكل من الوزراء الحكوميين مثل مجلس وزراء الإعلام، ومجلس وزراء العدل، ومجلس وزراء البيئة، ومجلس وزراء الداخلية، ومجلس وزراء الاقتصاد، ومجلس وزراء التعليم، ومجلس وزراء الصحة.. إلخ،
والتمثيل الحكومي في هذه المجالس تمثيل مباشر، وإذا كان هناك ثمة تمثيل للشعوب من خلال هذه المجالس فهو تمثيل غير مباشر.
وكل هؤلاء الوزراء هم موظفون يمثلون حكومات دولهم ولا يمثلون شعوبهم، الأكثر من هذا أنه يتعين على الدول تعيين مندوبين دائمين في المنظمات التي ينتسبون إليها ليكونوا همزة الربط بين الحكومات والمنظمات الدولية، وهؤلاء المندوبون هم موظفون حكوميون، كذلك فإن الدول الأعضاء تدفع سنويا ــ من خلال الحكومات ــ أقساطها المالية لدعم ميزانيات المنظمة.
ونعرف جميعا أن المؤسسين السبعة للجامعة العربية هم السعودية ومصر ولبنان وسورية والعراق والمملكة المتوكلية اليمنية والأردن، بمعنى إن مؤسسي الجامعة العربية هي الدول السبع وليس الشعوب السبعة.
وما نقوله عن الجامعة العربية نقوله عن هيئة الأمم المتحدة ومجلس التعاون الإسلامي ومجلس التعاون الخليجي، فهي منظمات تعنى بالدرجة الأولى بالشأن الحكومي الهادف إلى تحقيق الأمن والسلم ولا بأس من تنظيمات فرعية لمنظمات المجتمع المدني تستهدف السلام والأمن الاجتماعيين.
ولقد حاولت جامعة الدول العربية أن تفتح جسرا مع الشعوب العربية من خلال إنشاء منظمة العمل العربية ومن خلال إنشاء المنظمة العربية للثقافة، كذلك قامت الجامعة بدعم إنشاء اتحاد المحامين العرب كممثلين للشعوب، واحتضنت الجامعة الاتحاد، كما أن الجامعة لها أجنحة كثيرة تمتد إلى ممثلي الشعوب العربية، حيث إنها تحتضن اتحادات عربية كثيرة، منها اتحاد المؤرخين العرب واتحاد الفنانين العرب واتحاد الصحافيين العرب، واتحاد الناشرين العرب.
وإذا كانت هناك بعض الاجتماعات الشعبوية، فهي اجتماعات فرعية بدأت تطرح نفسها، بالذات بعد الثورات الشعبية التي اندلعت في تونس ومصر وليبيا واليمن، التي أطلق عليها اعتباطا اسم ثورات الربيع العربي، وهي ثورات مدعومة من الخارج ضد العمل العربي المشترك وضد استقلال الدول العربية ومصالحها العليا.
ولكن في السنوات العشر الأخيرة بدأت المشكلات والتحديات تتسم بالشعبوية، أي أن الشعوب هي التي تحرك موجات الأحداث وتفرض على الجامعة العربية التعاطي مع مطالب الشعوب العربية التي انتفضت على حكوماتها الشرعية.
أمام هذا اتخذت الجامعة ــ لأول مرة ــ قرارات في غير مصلحة الحكومات، ونذكر ــ على سبيل المثال ــ فإن الجامعة العربية اتخذت عدة قرارات في مصلحة الثورة الشعبية في تونس، والثورة الشعبية في ليبيا والثورة الشعبية في اليمن والثورة الشعبية في سورية، بل أعلنت تأييدها للثورة الشعبية التي انفجرت في مصر، رغم أن الجامعة تقع في حضن الدولة المصرية التي قامت برعايتها منذ تأسيسها في عام 1945 ومنحتها المقر بثمن بخس دراهم معدودة.
إن المثقفين العرب ــ على سبيل المثال ــ يريدون من الجامعة أن يكون لها تأثير واضح في سياسات الحكومات العربية، وأن يكون التأثير معبرا عن الشعوب وليس معبرا عن الحكومات فحسب.
ولا شك أن قوة الشد بين الحكومات والشعوب أفقدت الجامعة الفعالية المطلوبة، حيث إن ميثاقها وطبيعتها القانونية والموضوعية يقتضيان التعاطي مع الحكومات، ولكن المستجدات الشعبوية تطرح في هذه الأيام قضاياها المصيرية بقوة.
ولكن مع هذا فإن فصل الحكومات عن المنظمات الدولية أمر غير وارد وغير طبيعي، لأن الارتباط بين الحكومات وهذه المنظمات ارتباط عضوي لا يمكن فصمه.
وواضح أن جامعة الدول العربية تواجه في هذه الأيام قضايا لم يسبق أن واجهتها طوال أكثر من 70 عاما، وكانت الجامعة ــ في كل مراحلها السابقة ــ ممثلة للحكومات الملزمة بدفع مساهماتها السنوية.
والمشكلة الأخطر التي تواجه الجامعة أو المشكلة التي أضعفت الجامعة كثيرا هي أن بعض الدول العربية لم تعد تحرص على الالتزام بميثاق جامعة الدول العربية، بل أصبحت بعض الدول تغرد خارج سرب الجامعة، ونذكر ــ على سبيل المثال ــ أن مصر تسعى إلى تحسين علاقاتها مع إيران، رغم أن إيران تتدخل في الشؤون الداخلية لعدد من الدول العربية، ومنها مصر التي تعرف حجم تدخل حزب الله الإيراني في مذبحة السجون المصرية إبان ثورة 25 يناير، وتعرف جيدا دورها في اغتيال الرئيس السادات، كذلك فإن إيران تشعل الحروب الطائفية في عدد من الدول العربية، وتسعى إلى نشر الأرهاب والفوضى في ربوع عالمنا العربي، علما بأن مصر تعلم أن ميثاق جامعة الدول العربية ينص على أن الجامعة لا تقبل أي تدخل خارجي في شؤون الدول الأعضاء، كذلك تعتبر الجامعة أن أي اعتداء على أي دولة عربية اعتداء صريح على كل الدول العربية، وواجب الدول العربية جميعها التصدي للتدخلات الخارجية في شؤون الدول العربية الأعضاء.
ولكن مصر رغم التوغل الإيراني العسكري الذي يهدد الاستقرار وينشر الإرهاب في عدد من الدول العربية ومنها السعودية ولبنان وسورية واليمن والعراق والبحرين والكويت.. إلا أنها تحاول تحسين وتطبيع علاقاتها مع إيران، وهو ما يخالف نص وروح ميثاق جامعة الدول العربية الذي وقعت عليه مصر، بل قامت مصر كدولة مقر ودولة مؤسسة للجامعة بإعداد مسودة ميثاق الجامعة الذي ينص على أن أي اعتداء على أي دولة عربية اعتداء على الأمن القومي العربي، وواجب الدول العربية جميعها أن تتصدى لأي نوع من أنواع العدوان الخارجي.
في ضوء كل هذه المستجدات والتطورات الإقليمية والعالمية، فإن الجامعة العربية تحتاج إلى إعادة إصلاح وبناء حتى تكون أكثر فعالية وأكبر تأثيرا في الشارع العربي.