السوق المالية بين التكلفة التاريخية والقيمة العادلة «1»

أصدرت هيئة السوق المالية قبل أسابيع قرارا بإلزام الشركات المدرجة في السوق باستخدام خيار التكلفة التاريخية لقياس العقارات، والآلات والمعدات والعقارات الاستثمارية والأصول غير الملموسة عند تطبيق معايير المحاسبة الدولية لمدة ثلاث سنوات ابتداء من تاريخ تطبيقها. والسبب في إصدار هذا القرار يعود إلى أن الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين قد أقرت تطبيق معايير المحاسبة الدولية دفعة واحدة على الشركات المدرجة في السوق المالية على القوائم المالية المعدة عن فترات مالية تبدأ في 1/1/2017م أو بعده، وهذه المعايير الدولية IFRS تقدم خيارات عدة لتقييم الأصول والالتزامات المختلفة التي تظهر في القوائم المالية، ومن ضمن الخيارات المقدمة تقييم الأصول بالقيمة الجارية أو التكلفة التاريخية أو القيمة العادلة، ولأن عديدا من المهتمين بشؤون سوق المال والأسهم قد لا يعرفون السبب وراء قرار السوق المالية بتقييد الشركات باستخدام التكلفة التاريخية فقط، ولماذا يبدو الموضوع لا معنى له حيث يفترض أن تسجل كل الأصول أو الالتزامات بالقيمة التي وافق عليها الطرفان عند التعاقد فلماذا هذه المشكلة أصلا، يأتي هذا المقال لتوضيح الأمر، خاصة لغير المختصين.
بداية لماذا هناك معايير لإعداد القوائم المالية تتضمن طرقا متنوعة لتحديد قيمة كل عنصر من عناصرها، وكل بند من بنودها (وهنا أستميح المختصين في تجاوز المصطلحات المهنية لتوضيح المسألة)، فالسبب أنه لا يمكننا المقارنة أبدا بين الشركات (وفي القطاع الواحد على وجه الخصوص) إذا لم تكن طريقة تحديد وقياس قيمة كل عنصر متقاربة إلى حد بعيد. فلو افترضنا عدم وجود معايير مرجعية للقياس المحاسبي فسوف يقوم محاسب إحدى شركات الاتصالات (مثلا) بحساب قيمة الإيرادات بطريقته وتقديره لها، بينما يقوم المحاسبون في شركات أخرى بتقديرها كل بطريقته وأسلوبه، فهذا يثبت جميع الإيرادات حتى تلك التي لم تحصل بعد بل ليس لها عقود بعد، وهذا الآخر ينتظر فلا يثبت الإيرادات حتى تسلم النقود فعليا ولا يقبل الدين، وبذلك تنتهي القوائم المالية لشركة بإيرادات مضخمة جدا وأرباح كبيرة للغاية رغم أن معظم تلك الإيرادات قد لا تحصل أبدا لو بعد حين، وشركة أخرى تظهر إيراداتها منخفضة جدا رغم وجود عقود واضحة وحقوق والتزامات لا يمكن التملص منها، وبهذا سوف تأتي قرارات شراء الأسهم بعد صدور القوائم المالية للشركتين متضاربة وغير صحيحة وقد يتورط كثيرون في بيع أسهم جيدة للغاية أو شراء أسهم سيئة لأنهم خطأ يقارنون بين الشركتين وهما ليستا في موضع المقارنة. لهذا فلا مناص للجهات المنظمة من أن تعتمد معايير مرجعية واحدة تتسم بالقبول العام يجب على الجميع الالتزام بها كي تقترب القوائم من إمكانية المقارنة ويصبح بيع وشراء الأسهم أو تقديم القروض سهلا أو قريبا من السهل على السوق المالية.
وإذا كان هذا واضحا فلماذا وضعت المعايير الدولية خيارات في موضوع قياس الأصول، لأن المعايير الدولية لم تصدرها دولة بعينها ولا نظام مالي معين بل هي مجموعة من المعايير التي من المفترض أن تتناسب مع جميع دول العالم، ولهذا فإن التنوع في الخيارات أمر يساعد على القبول الدولي لها، وقد وضع مجلس المعايير الدولية هامشا واسعا حيث يمكن لأي دولة أن تقيد استخدام الخيارات المتاحة في خيار واحد فقط وهذا ما فعلته هيئة السوق المالية في المملكة عندما قيدت استخدام تلك الخيارات المتعلقة بحساب قيمة الأصول في التكلفة التاريخية فقط. ويبقى السؤال المهم هو لماذا كانت هيئة السوق المالية قلقة من الخيارات الأخرى، خاصة القيمة العادلة؟ قبل الإجابة ورغم أنني أتقبل حق الهيئة في عدم تفعيل القيمة العادلة في السوق المالية إلا أنني أتحفظ كثيرا على هذا القرار، فلا يمكن تحسين الشفافية والإفصاح والوضع الحقيقي لكثير من الأصول إلا إذا تم استخدام القيمة العادلة. وقبل الإجابة عن سؤال لماذا تخوفت الهيئة، فإنني أوضح أولا أن التكلفة التاريخية تعني أن يتم إثبات الأصول والعقارات وغيرهما بقيمتها عند الشراء متضمنة جميع ما أنفق عليها حتى تصبح جاهزة للاستخدام، فشراء سيارة بقيمة 50 ألف ريال بفواتير شراء واضحة يعتبر دليلا على قيمتها يصعب رده، أو هذا ما يدعيه أحبة القيمة التاريخية، فهي في نظرهم تتسم بالصدق والموضوعية وعدم الاجتهاد من قبل الشركة، لكن هذا صحيح عند الشراء فما الحال بعد سنة أو سنتين هل بقيت قيمة السيارة أو الأرض كما هي يوم الشراء، مرة أخرى يرى أحبة القيمة التاريخية بقاء القيمة كما هي عليه عندما تم الشراء ولا يقبلون بالتغيير، بينما أحبة القيمة العادلة يرون في السنة الأولى أن القيمة العادلة والتاريخية سواء، لكن في السنوات التالية فإن القيمة التاريخية لم تعد صادقة ولا بد من إعادة التقييم وفقا لتثمين صادق، لكن محبي القيمة التاريخية يرون أن الشركات قد تتلاعب في التثمين فتخفض الأصول أو تبالغ في قيمتها وإذا كنا ننشد المقارنة بين القوائم المالية في الشركات فإن القيمة العادلة تحطمها تماما.
لفصل النزاع بين الاتجاهين أحيل القارئ الكريم أولا إلى مقال لي سابق عن أزمة الرهن الأمريكية عام 2008 والدور الذي لعبته المعايير المحاسبية في تلك الأزمة، بعنوان (المعيار 157 هل كان جلاد الأزمة المالية أم ضحيتها؟) فلقد تبنى واضعو المعايير الأمريكية معيارا لإجبار الشركات على استخدام القيمة العادلة على أساس أن الأسواق قادرة من خلال التثمين المستقل على تقديم أفضل قياس للأصول وأكثرها استقلالا وعدالة. لكن لحل قضية التلاعب بالقيمة العادلة قدم المعيار تفصيلا هيكليا وإجرائيا صارما لتحديد القيمة العادلة. لكن ما حدث بعد ذلك كان كارثيا فقد انهارت الأسواق المالية مع استخدام هذا المعيار وصرامته وقررت الأسواق المالية الأمريكية إيقافه مؤقتا. فهل كان سيئا فعلا أم كان صادقا لدرجة أن الأسواق المالية لم تتحمل صدقه؟ .. يتبع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي