كهنوت .. احتكار المعرفة
المجتمعات لا تغير ما في نفسها ما لم يتم تحدي أسلوب السلطة التي تتحكم فيها. وكل سلطة بصورة عامة تقاوم التغيير بشتى الوسائل التي قد تصل إلى استخدام العنف والسطوة والبطش.
بيد أن احتكار المعرفة يأتي في مقدمة الوسائل وأكثرها نجاعة في المحافظة على السلطة وما يتبعها من امتيازات. المعرفة سلاح تروضه السلطة لغاياتها وتبرير مواقفها وسياساتها.
ونحن كبشر نجري في أغلب الأحيان دون وعي منا وراء الذين يملكون المعرفة وننسى أن أصحاب المعرفة في الغالب يضعون علمهم ومعرفتهم في خدمة السلطة.
والتغيير الذي تدعو إليه الأفكار النيرة ومنها الرسالات التي يراها أصحابها من السماء يلامس بصورة مباشرة أصحاب السلطة الذين في الغالب يستندون في عميلة ترسيخ سطوتهم وسلطانهم إلى الذين يحتكرون المعرفة.
وأصحاب المعرفة لهم طقوسهم وممارساتهم التي تبدأ من طريقة اللباس إلى الكلام والخطاب والجلوس وغيره، وتصل إلى مخاطبة الآخر من عل واستخدام أطر لغوية خاصة تجعل منهم في كثير من الأحيان خارج المحاسبة لما يقولونه ويفعلونه.
يأتي كثير من رجال الدين في مقدمة محتكري المعرفة. التاريخ يظهر لنا كيف أن “الكهنوت” رافق البشرية في كل طقوسها وممارساتها الدينية. وكان الكهنة في المعابد، ولا يزالون حتى يومنا هذا، يحاولون احتكار المعرفة بطرق شتى، ومنها:
أولا، الإيحاء للعامة من الناس بصعوبة الوصول إلى “رموزهم المقدسة” وعلى وجه الخصوص النصوص، وأن الإنسان العادي يصعب عليه فك رموزها. بمعنى آخر هم فقط لهم “المعرفة” في قراءتها وليس غيرهم. يرفضون لا بل يقتتلون للحفاظ على المعرفة وذلك برفض تبسيط النصوص من خلال الترجمة مثلا أو إعادة صياغتها كي يفهمها عامة الناس.
ثانيا، يمنحون أنفسهم فقط الحق في تفسير النصوص ويحرمون الآخرين من ذلك. ويصل ببعضهم الأمر إلى منح أنفسهم تفويضا إلهيا ويفرضون على أتباعهم النظر إليهم وكأنهم “ظل الله” في الأرض. وهنا تنبع خطورة كبيرة، لأنهم لا يحتكرون المعرفة وحسب بل يحتكرون “التفويض” بوضع أنفسهم وخطابهم وتفسيرهم في مقدمة النص “المقدس” الذي يتعاملون معه.
ثالثا، يخادع بعضهم بقولهم إنهم خدم “النص المقدس”. في الحقيقة إنهم يحاولون – ومع الأسف ينجحون في كثير من الأحيان – وضع تفسيرهم قبل “النص المقدس” إلى درجة أن الناس تركز على تفسيرهم وتتشبث به دون مراعاة لقراءتهم الخاصة للنص.
رابعا، ينسى الناس أن هناك رجال دين يضعون معرفتهم وتفسيرهم في خدمة السلطة والمؤسسة التي يتبعونها. وهذا الأمر بذاته خطير جدا لأن وضع المعرفة في خدمة السلطة يؤدي إلى انتقاء نصوص محددة وتسويغها خارج سياقها لخدمة أغراض السلطة. والعرب لهم قول مأثور في هذا وهو “وعاظ السلاطين”.
خامسا، الناس بصورة عامة تستحسن مبدأ احتكار المعرفة رغم مساوئه، والسبب في ذلك واضح. رجال الدين يفسرون النصوص لتثبيت الناس على ميولهم التي هم عليها دون بذل جهد كي يغيروا في أنفسهم. انظر مثلا كيف أن رجال الدين – في أي دين – يركزون على الممارسات الطقسية مثلا دون التأكيد على الرحمة والتسامح والعطاء والمحبة، وهي الأركان التي تشكل دعائم البنيان الفكري للأديان التي ترى أن نصوصها أتت من السماء.
سادسا، يسهل بعض رجال الدين للناس ما يستصعبه النص من خلال التلقين خدمة لمكانتهم المؤسساتية. وهكذا ترى أن الناس تستنجد برجال الدين عندما ترى أو تحس أنها قد انتهكت ما يدعو إليه النص. والناس بدلا من قراءة النص لمعرفة مثلا العقوبة أو القصاص الذي يرافق مخالفته، تلتجئ إلى رجل الدين الذي يفرض ما يراه يوائم معرفته ويدعم سلطته. وهذا ما يحوّل إدراك النص واستيعابه وفهمه إلى عملية ميكانيكية يحتكرها رجل الدين لتصريف مصلحته ومصلحة السلطة والميول التي يتبعها.
ولهذا ليس من مصلحة الذي يحتكر المعرفة وقراءة النص التخلي عن هذا الامتياز الكبير وجعله متاحا للكل بصورة متساوية.
واحتكار المعرفة له علاقة بجميع الحقول والمشارب المعرفية والعلمية. وكل احتكار له سلبيات كثيرة ولكن احتكار النصوص والرموز التي يراها أصحابها مقدسة له وقع لا وقع بعده على أتباعها.
المعرفة في أغلب الحقول في الإمكان التحقق منها. إن ذهبت إلى طبيب منحك العلاج وفي إمكانك التحقق من نجاعة الدواء والوصفة، وإن أخطأ في تفسيره وقراءته بإمكانك رفع الأذى الذي يحصل لك عن طريق المحاكم.
احتكار معرفة “النصوص المقدسة” قراءة وتفسيرا لا يمنح الناس الحرية للتحقق ورفع الأذى عند الضرر. أصحاب المعرفة هنا يحتكرون الوصفة والتحقق من نجاعتها لأن وجودهم يستند إلى أن الناس لا يحق لها أساسا القراءة والتواصل مع النص دون رخصة منهم؛ الرخصة التي لا يمنحونها إلا لأنفسهم.