وضع «طبيعي جديد» في سوق النفط

وضع «طبيعي جديد» في سوق النفط

شهدت أسعار النفط بعض الاستقرار في الشهور الأخيرة، لكنّ هناك أسبابا وجيهة تدعو إلى الاعتقاد بأنها لن تعود إلى مستوياتها المرتفعة التي سبقت الانهيار التاريخي منذ عامين. فإنتاج النفط الصخري أضاف للإمدادات النفطية مصدرا دائما جديدا بأسعار أقل. ومن ناحية أخرى، سينخفض الطلب بسبب تباطؤ النمو في الأسواق الصاعدة والجهود المبذولة على مستوى العالم لتخفيض انبعاثات الكربون. كل ذلك يشكل الوضع "الطبيعي الجديد" بالنسبة للنفط.
وقد جاء النفط الصخري ليقلب الموازين. فعلى غير توقع، أسهم إنتاجه الكبير الذي بلغ خمسة ملايين برميل يوميا في إحداث تخمة في المعروض العالمي. ومع القرار المفاجئ الذي اتخذته منظمة البلدان المصدرة للنفط "أوبك" بالإبقاء على حجم الإنتاج دون تغيير، أسهم ذلك في انهيار أسعار النفط بدءا من يونيو 2015.
وعلى الرغم من أن انهيار الأسعار أدى إلى خفض هائل في الاستثمار النفطي، فقد كانت استجابة الإنتاج بطيئة، ما حافظ على المعروض الزائد. والأكثر من ذلك أن قوة إنتاج النفط الصخري رغم انخفاض الأسعار باغتت المشاركين في السوق من جديد، ما أدى إلى مزيد من الانخفاض في 2015. وقد تمكنت شركات الحفر العاملة في مجال النفط الصخري من تحقيق خفض كبير في تكاليفها عن طريق رفع الكفاءة، ما سمح للأطراف الفاعلة الرئيسة بتجنب الإفلاس. ومن المتوقع أن يؤدي تراجع الاستثمار إلى خفض إنتاج البلدان غير الأعضاء في منظمة أوبك في 2016، ولكن الإنتاج لا يزال أكبر من الاستهلاك. ويتوقع كثير من المختصين أن تتوازن أسواق النفط في 2017، إن استمر وجود مستوى مرتفع من المخزون.
ومع ذلك، يخيم عدم اليقين على حالة العرض، خاصة فيما يتعلق بالتكاليف المصاحبة للاستخراج وكذلك الإنتاج مما يسمى "مخزون النفط الصخري غير المستغل" – أي الحقول التي تم حفرها ولم تبدأ الإنتاج. ويمكن أن تضيف هذه الحقول إلى تدفقات الإنتاج في غضون أسابيع، ومن ثم تحدث تغيرا كبيرا في ديناميكية الإنتاج مقارنة بالنفط التقليدي – الذي يتسم بطول الفترات الفاصلة بين الاستثمار والإنتاج.
وعلى هذه الخلفية، تواصل بلدان "أوبك" وروسيا زيادة الإنتاج، كما عادت إيران إلى الأسواق وأدى إنتاجها إلى زيادة المعروض. (وقد اتفق أعضاء أوبك أخيرا على تخفيض الإنتاج، لكن هذا الاتفاق لم يستكمل بعد). وهناك عوامل أخرى مؤثرة أيضا؛ فالبيانات الأخيرة تشير إلى أن إنتاج النفط الصخري قد يستمر بقوة ويخالف التوقعات من جديد؛ فمع توقع تخفيض إنتاج "أوبك" بالتعاون مع البلدان المصدرة الأخرى، ارتفعت الأسعار إلى مستوى سيحفز كثيرا من منتجي النفط الصخري على زيادة الإنتاج.
وقد أدى تراجع الأسعار إلى تشجيع نمو الطلب على النفط الذي ارتفع إلى مستوى قياسي بلغ نحو 1.8 مليون برميل يوميا في 2015. ومن المتوقع أن يتراجع هذا الطلب إلى المستوى الاتجاهي البالغ 1.2 مليون برميل يوميا في 2016 و2017. وباستخدام تقديرات مرونة الطلب تجاه السعر، يتبين أن "أثر السعر" مسؤول عن زيادة قدرها 0.8 مليون برميل يوميا في الطلب على النفط. وهناك نسبة كبيرة من نمو الطلب على النفط يمكن إرجاعها إلى هبوط السعر وليس إلى زيادة الدخل. ونظرا لمحدودية المجال أمام انخفاضات أخرى في السعر بالدولار، ستعتمد زيادة الطلب في الأساس على آفاق النمو الاقتصادي العالمي.
وليست الآفاق مشجعة بالنسبة لنمو الطلب؛ فقد كانت الصين وغيرها من الأسواق الصاعدة والبلدان النامية محرك الطلب على النفط في العامين الماضيين. ويمثل استهلاك الصين للنفط 15 في المائة من الاستهلاك العالمي، لكن مساهمتها كبيرة في نمو الطلب عليه؛ لأن نموها الاقتصادي أسرع بكثير من نمو الاقتصادات المتقدمة (وهو ما ينطبق على بعض البلدان النامية الأخرى). ويمكن أن تؤدي زيادة التباطؤ في الاقتصادات الصاعدة والمتقدمة إلى إحداث تغير كبير في مشهد الطلب. ومن المحتمل أيضا أن تنشأ انعكاسات كبيرة على أثر التحولات الهيكلية الجارية في الاقتصادات الصاعدة، خاصة جهود الصين للتحول من نموذج النمو القائم على الاستثمار والتصدير إلى نموذج يعتمد على الطلب المحلي.
وعلى المدى المتوسط إلى الطويل، تخيم على آفاق الطلب على النفط آثار التحول عن النفط وغيره من أنواع الوقود الأحفوري، وإن كان انخفاض أسعاره قد يؤخر هذا التحول. وسيلزم أيضا إجراء تغييرات كبيرة في سياسات الطاقة لكي تحقق الأهداف التي حددها مؤتمر باريس المعني بتغير المناخ (COP21) في ديسمبر 2015، مع ضرورة أن يظل جانب كبير من احتياطيات النفط في باطن الأرض وغير محروق. ولا يؤدي غياب الوضوح بشأن الإجراءات المحددة اللازمة لتحقيق هذه الأهداف إلا إضافة مزيد من عدم اليقين بشأن آفاق الطلب على النفط.
وبديهيا، تشير أسواق العقود الآجلة إلى مكاسب طفيفة في أسعار النفط. ولكن إذا نظرنا إلى التحولات في منحنيات أسعار النفط في العقود الآجلة خلال الشهور القليلة الماضية نجدها تشير إلى زيادة سوء احتمالات ارتفاع أسعار النفط ولا غرابة في ذلك، إذ إن التعديلات الخافضة لتنبؤات النمو العالمي، خاصة للأسواق الصاعدة، توازن العوامل الداعمة، مثل نمو الطلب على النفط بدعم من انخفاض أسعار النفط في العام الماضي. وقد أدت الاضطرابات في الأسواق المالية، فضلا عن قوة الدولار الأمريكي، إلى فرض ضغوط خافضة لأسعار النفط. وهذه الاتجاهات العامة، إضافة إلى الهبوط المتواصل في استهلاك البترول في الاقتصادات المتقدمة ونمو إنتاج النفط الصخري، تشير إلى سيناريو انخفاض أكبر وأطول في أسعار النفط.

الأكثر قراءة