اقتصاديا .. الإنتاجية والوزير
ماكينة الاقتصاد هي النمو الاقتصادي ووقود هذه الماكينة هو الإنتاجية، ولذلك حين يتحدث رجل الدولة عن الإنتاجية علينا الإنصات وسماع التفاصيل لمعرفة سلامة الماكينة الاقتصادية. قد يقول قائل إنها زلة لسان ولكنها ليست كذلك إذ إن إصرار الوزير على التوصيف والمرجعية لطرح ابتعد عن المعنوي وعن المادي (المنظور غير العلمي وآفة التعميم) لموضوع فني - حين تغيب المرجعية العلمية يصبح الرأي والحكم الجزافي آلية لصنع القرار. دعنا نفرق بين ملاحظات الوزير وبين محاولة تحليل الإنتاجية. الأول يتحمل الوزير تبعاته ولعل جهات أخرى ترى ما يلزم بما في ذلك من دور اقتصادي أكثر توثيقا ودقة في المسألة والمرجعية الاقتصادية علميا والتواصل مع الناس داخليا وخارجيا. والثاني فني حيث هناك حاجة ماسة إلى وجود قياس للإنتاجية من خلال مركز فكري مستقل عن جميع الأجهزة لتفادي التضارب في المصالح والتقدير الجزافي. لا يمكن لكل مسؤول الحديث عن الأرقام والمتغيرات الاقتصادية دون مرجعية موثقة.
لا يختلف أحد في دور التعليم ورفع مستوى المهارات لأكبر عدد ممكن من الناس ولكن موضوع الإنتاجية أكثر تعقيدا مما يتصور الوزير (قياسا على ما ذكر). الإنتاجية سهلة التعريف ولكنها صعبة القياس وأصعب للتوظيف كأداة لصنع السياسات، خاصة في القطاع العام. أيضا ليس هناك شك في أن عدم وجود أعداد كافية بتعليم ومهارات معينة يعوق كثيرا من الدول عن التقدم. إحدى خواص الاقتصاد الحديث تتمثل في أن أعدادا قليلة تستطيع رفع مستوى النشاطات الاقتصادية. فمثلا سوف تجد استثمارات "سابك" الكبيرة في مصانع مؤثرة من حيث العائد والمبالغ المستثمرة تتطلب عددا قليلا نسبيا من المهندسين وعددا ليس كبيرا من الفنيين المهرة. المبالغ المستثمرة كبيرة والربحية عالية ولذلك هناك عدم تجانس بين دور الإنتاجية بين المادي (المبالغ المستثمرة) وبين البشري (نوعية العاملين وعددهم). منظار آخر للإنتاجية يرشدنا إلى صورة أخرى مختلفة للنظر للإنتاجية، فمثلا القيمة السوقية (عدد الأسهم المصدرة مضروبة في سعر السهم) لشركة المراعي تصل إلى نحو 44 مليار ريال بينما عدد العاملين يصل إلى نحو 40 ألف عامل، بينما في شركة جرير تصل القيمة السوقية إلى ثمانية مليارات ريال مقابل نحو 3200 عامل، بينما القيمة السوقية لشركة التصنيع الوطنية تصل إلى 8.6 مليار ريال مقابل نحو 8000 عامل. ليس الغرض هنا فحص إنتاجية هذه الشركات أو حتى المقارنة بينها (إذ لا يمكن المقارنة نظرا لاختلاف طبيعة الأعمال والقطاعات ودرجة الرافعة المالية وعوامل أخرى كثيرة) ولكن لتوضيح مدى الصعوبة في قياس الإنتاجية أو حتى الإجماع على أفضل السبل لموضوع فني - هذا أحد أوجه معايير الإنتاجية الذي قد يجد كثيرون، ببعض الموضوعية أنه لا يعطي الموضوع حقه.
لم يتحدث الوزير عن القطاع الخاص حيث المعلومة متوافرة نسبيا وقياسها موضوعي في أغلب الأحيان ولكنه تحدث عن إنتاجية القطاع العام الأكثر تعقيدا. فقياس إنتاجية قطاع الجوازات يمكن أن يكون بالعلاقة بين عدد ما ينتج من المستندات وساعات العمل، ولكن حتى هذا المعيار لا يعطي الموضوع حقه إذ كيف نقيس درجة الحماية الوطنية واليقظة لحماية الوطن (الدقة في جمع وتحليل المعلومات لتفادي الغش والتزوير والتوزيع الجغرافي) خاصة في زمن ازداد فيه حجم وتنوع دور الصناعة المعلوماتية وتوظيفها لأغراض ضد المصالح الوطنية. وكيف نقارن بين إنتاجية المعلمين، ومن ثم فصل إنتاجيتهم عن موظفي وزارة التعليم الآخرين؟ وكيف تقيس إنتاجية مواطن يضحي بنفسه دفاعا عن الوطن مقارنة بمسؤول لم يبذل الجهد للحصول على معلومات دقيقة عن الإنتاجية ولم يطالب حتى بالمعلومة (إذ لم يذكر في حديثه التفاصيل اللازمة)؟ كيف تقيس إنتاجية القطاع العام في ظل تذبذب أرقام الدخل القومي والميزانية؟ وكيف تقيس الإنتاجية مقارنة بالدول المشابهة في المرحلة من حيث التنمية والحجم الاقتصادي والحالة الاقتصادية؟
ويزداد الموضوع تعقيدا حين نحاول فهم وتقدير هيكل الحوافز في ظل منظومة مجتمعية وإدارية معينة - فهذه حالة سائلة تتطلب رصدا اقتصاديا وحسابيا دقيقا، ويبدو أنها بعيدة عن مدخلات وزارة الخدمة المدنية وتعبير الوزير عنها بطريقة علمية. أحد أشكال هذه الظاهرة العالمية اليوم اقتصاديا أن أغلب المداخل تذهب إلى أعداد قليلة عالية القدرات والمهارات، بينما الكثير يبقى في مستوى مستقر من الدخل. رفع مستوى المجتمع إنتاجا ودخلا يتطلب إعادة بناء المنظومة الاقتصادية ورفع مستوى الدقة والفرز والمنافسة، وهذا لم يتطرق إليه الوزير حيث للإنتاجية دور وعلاقة بتوزيع الدخل وكيفية الحصول على الدخل والكسب. هذه مسائل اقتصادية لم يعطها الوزير حقها ليكيف ويثري الموضوع.
الواضح أن الإنتاجية ليست عالية بسبب آفات الاقتصاد الريعي ولكن حتى هذا لا يكفي للتحليل، فالإنتاجية قليلة قياسا على حجم إدارة الدولة وتكبير حجم الحكومة مقابل الحاجة إلى تغليب النمو الصناعي والتقني والخدمي (إنتاجية مختلفة). لا بد من تغيير منظومة الحوافز وتشجيع المنافسة ودقة وجودة النظام التعليمي للوقوف على مرجعية اقتصادية جديدة (راجع العمود السابق للوقوف على مدى تعقيد المرحلة اقتصاديا. التعليم قد يزيد فرصة تكافؤ الفرص ولكنه ليس ضمانا للإنتاجية أو توزيع الدخل. مرحليا لا بد من تقليص تكاليف إدارة الحكومة وإنشاء مركز فكري على درجة مقبولة من الاستقلالية.