المملكة من أبعد الدول عن شبح الإفلاس

أثارت تصريحات نائب وزير الاقتصاد والتخطيط عن إمكانية إفلاس المملكة خلال ثلاث سنوات - في حال استمرار السياسة المالية على وضعها السابق - موجة من التعجب في أوساط المجتمع ووسائل التواصل (أوضح ما كان يقصده لاحقا). فمتى تفلس الدول؟ وهل من الممكن أن تصل المملكة إلى هذه الحالة وبهذه السرعة؟ وكما هو معلوم فإن الدول تفلس عندما تعجز عن الوفاء بالتزامات ديونها. وقبيل حالة الإفلاس يتضخم حجم الدين الوطني (خصوصا الجزء الخارجي منه) إلى مستويات هائلة وتتعاظم أقساط خدمته حتى يفوق قدرات البلاد على السداد.
تقترض الدول عادة من السوق المحلية بالعملة الوطنية، ومن الأسواق العالمية بالعملات الصعبة. وتستطيع دول العالم الاستمرار في الاقتراض من السوق المحلية وبالعملة الوطنية ما لم تمنعها أنظمتها من الاستمرار في الاقتراض. وتتعدى نسبة الديون الوطنية بالعملات الوطنية حجم الناتج المحلي في عدد من دول العالم بما في ذلك اليابان (230 في المائة)، وإيطاليا (132 في المائة)، والولايات المتحدة (107 في المائة). وقد تضع بعض الدول قيودا على حجم الدين الوطني يمنع الحكومات من الاستمرار في الاقتراض المحلي والدولي، وكاد أن يحدث هذا في الولايات المتحدة قبل عدة سنوات عندما أدت الخلافات السياسية إلى رفض رفع سقف الدين الأمريكي الوطني الذي كان ينذر بتوقف الحكومة الأمريكية عن سداد التزامات ديونها ورواتب موظفيها. ولا تواجه الدول عادة الإفلاس بسبب التزامات الدين المحلي، ولكنها تواجه مخاطر الإفلاس في حالة تضخم الاقتراض من الخارج وبعملات أجنبية، وهو ما حصل في حالة الأرجنتين في عام 2001. وتعجز الدول عن سداد خدمات الديون الوطنية بالعملات الأجنبية إذا لم يكن لدى الدولة ما يكفي من العملات الصعبة لسداد مستحقات الديون ولم تحصل على تسهيلات ائتمانية إضافية، أو تعيد جدولة ديونها. وعند مواجهة الدول مصاعب سداد ديونها تلجأ إلى دول أخرى أو مؤسسات دولية مثل صندوق النقد الدولي لمساعدتها.
إن بيانات المملكة المالية تظهر وبكل ثقة بأنها من أبعد دول العالم عن شبح الإفلاس، وأي تصريح بغير ذلك ينم عن قلة إدراك بالحقائق المالية، حيث لا تعاني المملكة أساسا أزمة دين وطني، فنسبة الدين الوطني إلى الناتج المحلي من أقل النسب في العالم ولم تتجاوز 5.9 في المائة في نهاية عام 2015، كما كان مصدرا بالريال. وتستطيع الحكومة الاقتراض من السوق المحلية ودون آثار سلبية في الاقتصاد الوطني ما لم تتجاوز نسبة 3 إلى 5 في المائة سنويا، حتى أن وصلت نسبة حجمه 60 في المائة من إجمالي الناتج المحلي. وتعتبر معظم المؤسسات الدولية هذه النسبة آمنة وقابلة للاستمرار دون إحداث معضلات اقتصادية لأي بلد ما دام بالعملة الوطنية. ولهذا ليس هناك بأس من الناحية الاقتصادية من وصول حجم الدين الوطني إلى 1.5 تريليون ريال.
بدأت الحكومة بالاقتراض من الأسواق العالمية بالعملة الأجنبية أخيرا، حيث يصل حجم الدين الأجنبي حتى آخر عملية بيع سندات سعودية عالمية إلى 27.5 مليار دولار. وتبلغ معدلات الفائدة على هذا الدين نحو 3.5 في المائة تقريبا، أو نحو مليار دولار سنويا. وتستطيع الحكومة من الناحية الاقتصادية الاستمرار في الاقتراض من الأسواق العالمية بالمعدلات والمستويات الحالية لعدة سنوات دون أن تتعرض إلى ضغوط اقتصادية قوية. وعلى الرغم من زيادة معدلات اقتراض الدولة أخيرا إلا أن ميزانها المالي لا يزال إيجابيا، لأن لديها احتياطيات تفوق التزاماتها، فهي مقرض صاف وليست مدينة كمعظم حكومات العالم. وقد تجاوز صافي أصول الحكومة السائلة 700 مليار ريال عند نهاية شهر أغسطس 2016. ولو قورن الوضع المالي لحكومة المملكة بحكومات العالم لاحتلت المملكة أحد المراكزالمتقدمة في الملاءة المالية، حيث إن معظم دول العالم تعاني صافي اقتراض هائل ومع هذا لا تشعر بأنها مهددة بالإفلاس.
تظهر البيانات المالية للحكومة أنها في وضع جيد ماليا حتى لو استمرت على سياستها المالية السابقة، حيث بإمكان الحكومة الاستمرار في تحمل عجز مالي سنوي يصل إلى 300 مليار ريال لما لا يقل عن سبع سنوات وتظل في الوقت نفسه تتمتع بملاءة مالية مماثلة لدول العالم. أما بالنسبة للاقتراض من العالم الخارجي وبالعملات الأجنبية فإن 10 في المائة من صادرات المملكة الحالية يوفر موارد كافية لسداد خدمات دين أجنبي يفوق 200 مليار دولار. ولكن التوسع في الاقتراض، خصوصا من الخارج، يحمل مخاطر على الاقتصاد الوطني ويصعب تبريره في ظل الظروف الاعتيادية، كما أنه يحرم الدولة فرص استخدامه في حالات الطوارئ والحالات الاستثنائية. ويدرك صناع القرار أن الاستمرار في سياسات التوسع المالي السابقة في ظل التراجع الكبير في إيرادات النفط واستنفاد الأصول الأجنبية ليس من الأمور الحكيمة. إن بناء اقتصاد قوي يتطلب أحيانا تبني إصلاحات مالية قد تكون مؤلمة، ولكن علينا تجنب المبالغة في سياسات التشدد المالي للحد من التأثيرات السلبية في النمو الاقتصادي وكفاءة عوامل الإنتاج. ويتفهم معظم أعضاء مجتمعنا أهمية الإصلاح وهم مستعدون لتحمل تكاليفه، ولكن على أن يكون توزيع التكاليف عادلا، وأن تستهدف الإصلاحات تعظيم رفاهية المجتمع ورفع معدلات الدخل وعدالة توزيعه وتوليد مزيد من الوظائف.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي