لنأخذ العبرة من ورطة اليونان
ليس من قبيل المصادفة أن أتحدث في مقالي الأسبوع الماضي عن خطورة التقارير على متخذي القرار، حتى تندلع بعده مشكلة تصريحات بعض المسؤولين عن الإفلاس وعن إنتاجية الموظف السعودي. فالمسألة ليست مجرد مشكلة تصريح إعلامي من مسؤول، بل هي كما أشرت من قبل مشكلة التقارير في الاقتصاد السعودي ككل. لقد تجاوبت الوكالات الإعلامية العالمية سلبا وفورا مع تصريحات الوزراء، ذلك لأنها تؤمن تماما بصحة التقارير الحكومية وأنها تصدر من نظام معلومات يجب أن يتسم بالدقة والحياد، ومن الطبيعي بعدها أن يصبح الموظف السعودي كسولا في نظر العالم، إذا كانت حكومته تقول ذلك. لكن القضية ليست في رفض المجتمع لتلك المعلومات وتشكيك البعض في صحتها أصلا، بل في خطورة اتخاذ قرارات على أساس معلومات مشكوك فيها. وهنا أقول إنه ليس من باب المصادفة أن تندلع هذه القضية بعدما أشرت في مقال سابق إلى حجم وعمق مشكلة التقارير في المملكة. وللحقيقة فهذه ليست المشكلة الوحيدة طالما لم نرجع إلى الوراء ونقبل بتحدي إصلاح الحوكمة الاقتصادية ونظم المعلومات وإعداد التقارير في المملكة. لعل الجميع لم يزل يتذكر مصيبة شركة المتكاملة، وكيف اتخذ عدد واسع من أصحاب القرار في الحكومة قراراتهم على أساس بيانات أعدت لهم وكانت مضللة، ونتذكر مشكلة "المعجل" التي لم تزل تعصف بنا، ومشكلتي "بيشة" و"موبايلي"، وفي خضم هذا الموج الهائل من التضليل المعلوماتي لمتخذي القرار سوف نبدأ مرحلة التحول إلى معايير التقارير المالية الدولية IFRS، ولا نعرف إلى أي مدى يمكننا الوثوق بقدرة المحاسبين على مواجهة تحديات هذا التحول، إنها ورطة اليونان التي هدت جبل الاتحاد الأوروبي وقصمت ظهر بعيرهم اليورو.
من ورط اليونان في مشكلة عصفت بالعالم معها غير تقارير كانت مضللة، قرارات هائلة اتخذتها الحكومات اليونانية واحدة تلو أخرى وعلى مدى عقود ومعها الاتحاد الأوروبي والمصارف الأوروبية ليكتشف العالم مع موجة الأزمة المالية العالمية عام 2008 أن جميع التقارير التي نشرتها اليونان عن وضعها المالي وحجم الدين والإحصاءات عن التضخم والعجز والسكان وغيرها كانت مضللة. كانت اليونان ولم تزل كما يقال عنها دائما "مدمنة للديون"، وذلك لأن إنفاقها دائما كان أعلى بكثير من دخلها ولم تقم أي حكومة في اليونان بمعالجة هذه المشكلة لأنها كانت تعتبرها جزءا من السياسات المالية لديهم، لكن اليونان ولأسباب جيوسياسية بحتة سعت لأن تكون عضوا في الاتحاد الأوروبي، والاتحاد الأوروبي من جانبه يضع شروطا اقتصادية صارمة حول العجز ونسبة الديون والتضخم يجب أن تلتزم بها الدول الأعضاء، ومن أجل الانضمام قدمت اليونان تقارير مضللة تماما عن كل ذلك، ولأن الرغبة السياسية في دول الاتحاد كانت قائمة على دعم دخول اليونان فلم يقف أحد ليسأل اليونان عن صحة التقارير التي قدمتها والإحصائيات وعن حجم الدين الفعلي وعن التضخم والعجز. ولأن اليونان "مدمنة للديون" وهي الآن في حضن الاتحاد الأوروبي فلم يعد لها مناص من مواصلة التضليل في التقارير المالية الحكومية والإحصاءات العامة واستقطبت من أجل استمرار لعبتها أفضل العقول الاستشارية في العالم، وغضت أوروبا الطرف عنها لأن الاتحاد الأوروبي كان يعيش في حلم قوة اليورو ولم يكن أحد يريد أن يفيق منه أو يتصور أن مشكلة إدمان اليونان الصغيرة على الدين ستتحول إلى مشكلة تقارير تعصف بالاتحاد الأوروبي كله، لكنها حدثت فعلا.
لقد وصل العبث في التقارير والإحصاءات اليونانية إلى درجة أنه لا أحد كان يستطيع فعلا أن يحدد حجم الدين العام، لقد قامت مصارف وشركات استشارية كبرى عبر العالم ومنها جولدمان ساكس بمساعدة اليونان على إخفاء حجم الدين الحقيقي من خلال مشتقات مالية معقدة والدخول في مبادلة بأسعار صرف وهمية، وفي آخر المطاف، ولما بدأت المشكلة تتكشف مع فشل الحكومة في عام 2009 في حل الأزمة المالية التي تعصف بها، قامت وكالة الإحصاءات الأوروبية (يوروستات)، بإرسال وفود إلى أثينا للتحقق من موثوقية الأرقام والإحصاءات اليونانية، وأصدرت تقريرا يحتوي على اتهامات ببيانات مزورة وتدخل سياسي في إعداد تلك البيانات، عندها هاجم الاتحاد الأوروبي اليونان بعنف ورفع شعارات مثل الحوكمة الاقتصادية التي تطالب بجعل هيئات الإحصاء كيانات مستقلة عن الحكومة.
هكذا – ببساطة - كانت مشكلة اليونان التي ورطت معها دول الاتحاد الأوروبي وانتهت إلى عملية إنقاذ ضخمة تكفل بها دافعو الضرائب الأوروبيون الذين رضوا في آخر المطاف بدفع فاتورة رفاهية المواطن اليوناني، فالتقارير غير الصحيحة التي تهدف إلى دفع متخذ القرار نحو قرارات موجهة من قبل، وعدم وجود نظام شامل للحوكمة الاقتصادية يضمن دقة البيانات من جهات مستقلة تماما محايدة، كلها أدوات تدعم عملية التقارير الجيدة وتسهم في تطوير الثقة بالنظام المالي في الحكومات. وهذا ما نحتاج إليه في هذا الوقت وحتى لا نتورط فيما تورطت فيه اليونان، وحتى لا نعتمد على إحصاءات وتقارير أعدتها جهات استشارية تسوق لأرباحها فقط، وحتى نضمن نجاح خطة التحول الاستراتيجي الذي نضع آمالنا جميعا خلفه، وهو النجاح الذي لن يتحقق إلا إذا ارتكز على معلومات دقيقة ومضمونة وموثقة من جهات تتمتع بالاستقلالية.