جامعاتنا والاسترخاء العميق
تمثل الجامعة في أي مجتمع ركنا أساسيا، أو هكذا يجب أن تكون. هذا الركن يفترض أن يمس جميع جوانب الحياة السياسية، والاقتصادية، والتنمية الاجتماعية، والتطور التقني، والنمو المعرفي، الذي يشكل حجر الأساس في جميع مجالات الحياة، إذ لا نمو ولا تطور دون المعرفة الأصيلة المتجددة التي تنمو وتترعرع في قاعات المحاضرات ومراكز البحوث وفي المختبرات والمعامل من خلال التجارب فيما يخص العلوم الطبيعية بشكل عام، أو الحقل في علوم التربية، وعلم النفس، والاجتماع والإدارة.
يقاس نمو المجتمعات وتطورها من خلال إسهامها في التطور، والتنمية على المستوى الدولي في إيجاد المعارف، وبناء النظريات واختراع التقنيات التي تساعد الناس أينما كانت إقامتهم في حل مشكلاتهم البيئية، وتنظيم حياتهم، وتسهيل المعيشة، بما يحقق مستوى لائقا من الحياة لمعظم الناس على أقل تقدير، إن لم يكن كلهم.
من خصائص الجامعة الحية نزولها في الميدان، وكل في تخصصه، دراسة وبحثا واستقصاء لجميع الظواهر، أيا كانت طبيعتها مادية، أو اجتماعية، أو نفسية، أو إدارية، وتنظيمية، فالحياة مع ما يطرأ من تغير كفيلة بإحداث الكثير من الظواهر، سواء كانت ذات طابع إيجابي أو سلبي، وإذا لم تتم دراستها، واستيعابها، وأخذ، واستخلاص العبر منها فسيخسر المجتمع الكثير، ويدفع الثمن غاليا في أبنائه وثرواته.
نمت الجامعات لدينا من جامعة واحدة إلى ما يناهز الـ 30 جامعة حكومية، وأهلية منتشرة على خريطة الوطن بأكمله وفي جميع المناطق والمحافظات. وإلى جانب التدريس الذي هو المهمة الرئيسة لأي جامعة توجد جهود بحثية في الجامعات، إلا أنها في أغلبها فردية تنطلق من اهتمام شخصي في مجال التخصص أو فروعه، وليس هذا عيبا، وقد أبدع بعض الأساتذة في ابتكار وتطوير بعض الأجهزة، والتقنيات في مجالات عدة تحمل أسماءهم، إلا أن البحوث ذات الطابع الاستراتيجي قد لا يكون لجامعاتنا نصيب منها إلا ما ندر.
العالم يموج بأحداث جسام، وتغيرات مفاجئة في العلاقات الدولية، وفي الطاقة، وتغير الثقافات والقيم نتيجة الطفرات التقنية التي لها النصيب الأكبر في الكثير من هذه التغيرات، فهل لجامعاتنا، ومعاقلنا العلمية إسهام في بحثها ودراسة واقتراح آليات مواجهتها، والتحكم في آثارها، وتوجيهها، إن لم يكن التنبؤ بهذه التغيرات؟! أم أن حالة الركود التي تتسم بها الجامعات لها دور في تواضع الإنتاج البحثي في هذا الشيء.
حتى لا يكون الطرح إنشائيا يلزم إعطاء أمثلة واقعية، إذ خلال العقود الأربعة شهدت منطقتنا أحداثا جساما يفترض دراستها، وتتبعها بصورة علمية منهجية وليست عاطفية، كما هو حالنا في الكثير من الظروف، فالثورة الإيرانية، وما تبعها من حرب بين العراق وإيران هل تصدت الجامعات لدراستها بجوانبها المتعددة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والنفسية؟ أنا لم أسمع عن مؤتمر أو ندوة عقدت في هذا الشأن، كما أن الغزو العراقي للكويت وما ترتب عليه من أزمة علاقة وثقة بين الدول العربية لم يعقد من أجله مؤتمر، ولا ندوة، ولا ورش عمل تحفز الأذهان، وتستثيرها للتفكير فيما قد يترتب عليه.
تفجير مركز التجارة العالمي، وما تبعه من اتهام للمملكة في مؤسساتها الرسمية وهيئاتها الخيرية، ومناهجها، وعقيدتها، وما يثار بين فينة وأخرى بشأن الحدث لابتزاز المملكة، كما في قانون الكونجرس المعروف بقانون العدالة ضد الدول الداعمة للإرهاب (جاستا). الربيع العربي، والثورة السورية، وحركة الحوثي، وما يحدث في العراق، كلها أحداث جسام تحتاج إلى البحث والدراسة لحماية، وتحصين الوطن أرضا، وإنسانا، لكن هذه لم تحظ باهتمام الجامعات!
ترى لماذا هذا الاسترخاء في جامعاتنا؟! الأمر كما أعتقد مرتبط بالقيادات الإدارية، وقد ينقصها التفكير الاستراتيجي الذي يجعلها تفكر خارج الجامعة، بل خارج الوطن، وعلى مستوى العالم، لتعرف كيف تسهم الجامعة في خدمة الوطن، ليس بصورة روتينية، كالانشغال بأعمال ورقية يومية، أو إغلاق المكتب خوفا من الحوار، بل بشكل إبداعي، وما دامت القيادات الجامعية بهذا المستوى فلن يكون الحراك الذي ننشده، ويسهم في توفير المعلومة لصناعة قرار سليما.