«الإبداع» .. ورفع كفاءة الموازنات
يمكن تعريف الإبداع بأنه إنتاج عقلي لأفكار جديدة ومفيدة لحل مشكلة ما منطقيا، والإبداع ليس إلا رؤية الفرد أو المجموعة لظاهرة ما بطريقة جديدة، وبالتالي يمكن القول إن الإبداع يتطلب القدرة على الإحساس بوجود مشكلة تتطلب المعالجة، ومن ثم القدرة على التفكير بشكل مختلف ومبدع لإيجاد الحل المناسب.
والمبدعون لا يتذمرون من المشكلة ويلومون الظروف وينتقدون الآخرين، بل يبادرون بالتحليل والتشخيص والتفكير لإيجاد الحلول، ولذلك عادة ما ينظرون للمشكلات كفرص لإعمال العقل للإبداع والتطور، وبالتالي فهم يرون في الظروف المتغيرة التي يعيشها الفرد أو المنشآت سواء أكانت ظروفا سياسية أو ثقافية أو اجتماعية أو اقتصادية، أسبابا تحتم على الفرد أو المنشأة الاستجابة لهذه المتغيرات بأسلوب إبداعي يضمن البقاء والتطور والاستمرارية. وبالتالي فإن المرونة، وهي القدرة على تغيير الحالة الذهنية بتغير الموقف، تعد من أهم القدرات المكونة للتفكير الإبداعي، حيث تمكن المرونة التلقائية الفرد أو المنشأة من إصدار أكبر عدد ممكن من الأفكار المتنوعة المرتبطة بمشكلة أو موقف مثير، بينما تمكن المرونة التكيفية الفرد أو المنشأة من تغيير الوجهة الذهنية في معالجة المشكلة ومواجهتها، ليتم التكيف مع أوضاع المشكلة ومع الصور التي تأخذها أو تظهر بها، والمرونة بخلاف الجمود والصلابة التي عادة ما تفاقم المشكلة وتعمقها.
بكل تأكيد انخفاض موازنات الحكومة وأجهزتها من وزارات وهيئات ومصالح أدى إلى مشكلات؛ منها إيقاف الكثير من المشاريع أو تخفيض الموازنات المرصودة لتنفيذها وتشغيل القائم منها، إضافة إلى مشاكل تأخر صرف مستحقات الموردين، وبالتالي فإن المشكلة المتوقعة إيقاف بعض الخدمات أو انخفاض مستوى تقديمها لجهة الوقت والجودة؛ الأمر الذي يؤدي بالتبعية إلى مشكلات اجتماعية وصحية وتعليمية، إضافة إلى المشكلات المتعلقة بالسلامة والأمن أيضا.
التصرف التقليدي من جميع الأجهزة المعنية التي انخفضت موازناتها هو الرضوخ للأمر الواقع وتقديم الأعذار والتملص من المسؤوليات، أو التحول لأداء المهام والمسؤوليات والأعمال بالحد الأدنى الذي يعفي من المسؤولية. وبكل تأكيد هذا ما لا يريده أي منا لبلادنا ومواطنيها، وبالتالي علينا أن نتجه جميعا للتفكير الإبداعي لتقديم الحلول الفاعلة التي تمكننا من تنفيذ المشاريع وتشغيلها وخدمة المواطنين، وتحقيق الأهداف التنموية المعززة لمستويات الرفاهية المنشودة، وهو أمر ليس بالصعب، خصوصا إذا أدركنا أننا لسنا سوى نحو ثلاثين مليون نسمة نعيش على بقعة جغرافية شاسعة حباها الله بالموارد الطبيعية من نفط ومعادن وصخور وسواحل تمتد لآلاف الكيلومترات، ومساحات زراعية شاسعة، ومياه جوفية، ومميزات سياحية؛ ومن ذلك السياحة الدينية، حيث تحتضن بلادنا الحرمين الشريفين مهوى قلوب المسلمين.
التفكير الإبداعي مكن أقليات من السيطرة على أكثريات، ومكن دولا ذات ندرة بالموارد لتكون دولا صناعية عملاقة، ومكن أفرادا ومؤسسات ودولا من معالجة مشكلات خطيرة وتحويلها إلى فرص ومكتسبات. ولذلك ليس مطلوبا منا سوى التعرف على التفكير الإبداعي ومنهجياته وتطبيقها، واستثمار جميع الطاقات والقدرات والموارد لتحقيق الأهداف المنشودة، وتجاوز مشكلة ضعف الموازنات التي نمر بها في هذه السنوات، خصوصا أن بلادنا أنفقت على التعليم داخل البلاد وخارجها مبالغ طائلة ليتكون لدينا رأسمال بشري قادر على مواجهة الظروف والتحديات، وتقديم حلول إبداعية تمكننا من تحقيق أهدافنا التنموية دون توقف.
يقول أحد الزملاء إننا على الرغم من الانجازات في سنوات الطفرة الماضية، أضعنا أموالا طائلة بسبب انخفاض كفاءة الأداء، وبالتالي كفاءة الأموال التي أنفقت، حيث تداخل الأولويات فالمهم يتقدم على الأهم وربما حتى غير المهم نقدمه على الأهم، وكذلك ارتفاع التكاليف مع ضعف الجودة. ولقد رأينا مطارات وجامعات وبنى تحتية أنفقت عليها المليارات كشفت الأمطار سوء جودتها، وأما الطرق فحدث ولا حرج لجهة ضعف جودة المواد المستخدمة وضعف جودة الرصف وفق المعايير؛ ما جعل كثيرا منها يتفتت وتظهر فيه الحفر والتشوهات التي تهدد السلامة، وتتطلب موازنات صيانة عالية رغم حداثة الرصف.
وأقول حان الوقت لرفع كفاءة الأداء وفق "رؤية 2030" التي سيكون لها أكبر الأثر في رفع كفاءة الموازنات وتخفيض نسبة الفاقد الذي قد يتجاوز في ما مضى ثلث الموازنات المخصصة للمشاريع وصيانتها وتكاليف تقديم الخدمات ــ بحسب بعض الآراء ــ بالتزامن مع توجيه الموازنات المالية لمحركات التنمية الأساسية التي تحرك الدورات الاقتصادية وتحد من الانكماش الاقتصادي، على أن يتحقق التكامل بين الأجهزة الحكومية في تنفيذ المهام بشكل عام والتكامل مع القطاع الخاص والمؤسسات المدنية والأفراد لتحقيق الأهداف التنموية ومواجهة المشكلات والتحديات أيا كان نوعها.
ولنا في التطبيقات الإلكترونية خير مثال، إذ رفعت من كفاءة أداء كثير من الجهات في الرصد والضبط دون الحاجة إلى مزيد من الإمكانات المادية والبشرية، ومن ذلك الأجهزة الأمنية وأجهزة المرور ووزارة العمل ووزارة التجارة والبلديات التي تعاونت مع المواطنين للرصد والضبط، لتتكفل هذه الأجهزة الحكومية بتحرير المخالفات ومباشرتها على أرض الواقع والتعامل مع مرتكبيها للحد من آثارها السلبية في المواطن والبنى التحتية والبيئة.
لنأخذ مثالا: ماذا لو تعاونت وزارة النقل وأمانات المدن وبلدياتها مع المواطنين لرصد الخلل في الطرق والبنى التحتية والإبلاغ عنها لتتكفل هذه الأجهزة بالتحقيق لمعرفة من قام بالإشراف على هذه المشاريع وتسلمها دون المواصفات والمقاييس ومعاقبته، ليكون عبرة لكل من تسول له نفسه تحقيق منافع شخصية على حساب المصلحة العامة، وتحميل الدولة مصروفات إضافة للإصلاح والصيانة، بكل تأكيد سينضبط الإنتاج وترتفع الكفاءة كما ضبطت التطبيقات الإلكترونية السرعة على الطرقات السريعة.
ختاما أتطلع إلى أن تقوم وزارة التخطيط والاقتصاد، بالتعاون مع وزارة الخدمة المدنية، بنشر ثقافة الإبداع بين موظفي الدولة لرفع كفاءة الموازنات لتحقيق ما حققته الموازنات السابقة وأكثر، فيما يتعلق بالأهداف التنموية الشاملة والمستدامة والمتوازنة، وكلنا ثقة بأن بلادنا تزخر بالمبدعين القادرين على طرح الحلول الإبداعية لتجاوز انخفاض إيرادات الدولة من النفط.