ما يجمع «الحشد» هو ذاته ما يفتت العراق .. «ولاية الفقيه»
تعاني الدولة العراقية الدور المتنامي والمتعاظم لـ"قوات الحشد الشعبي" التي هي عبارة عن مؤسسة عسكرية مسلحة داخل الدولة العراقية تعمل تحت إشراف رئيس الوزراء. وقد بدأت هذه القوات تغيّر تكتيكاتها الاستراتيجية وتتحول تدريجيا من محاربة تنظيم "داعش" إلى مؤسسة موازية تبحث لها عن أدوار أمنية وسياسية واقتصادية جديدة داخل جسد الدولة العراقية.
ووفقا لتقرير أعده الأستاذ المساعد في العلاقات الدولية علي أغوان، فإن قوات الحشد الشعبي تبرر توسعاتها بحجة محاربة الإرهاب المتنامي الذي تتعرض له العاصمة بغداد والمحافظات الأخرى، مذكرا بأن "منظمة بدر" إحدى فصائل الحشد الشعبي، قد أصبحت على حد قول أمينها العام هادي العامري أقوى بكثير من الجيش العراقي نفسه.
وبحسب ورقة أغوان فإن الصراع داخل "الحشد الشعبي" يتركز بين ثلاثة تيارات رئيسية متمثلة في:
التيار الأول "سرايا السلام": الذراع المسلحة لجماعة مقتدى الصدر وأكثر الفصائل عدة وعددا وأقلها دعماً من إيران ويتخذ هذا التيار مواقف معادية من الولايات المتحدة ومواقف حادة من إيران ولديه تاريخ طويل وصعب مع القوات الأمريكية منذ عام 2004.
التيار الثاني "أنصار ولاية الفقيه في العراق": من أخطر التيارات وأعقدها وأكثرها تركيباً بالرغم من أنه يقع في المركز الثالث من حيث العدد. كما أنه أكثر التيارات فعالية وتأثيراً لأن قيادة الحشد الشعبي موجودة لدى فصائله المدعومة بشكل كبير من إيران. ويهدف هذا التيار إلى التغلغل سياسياً وأمنياً واقتصادياً بشكل أوسع وأكبر في جسد الدولة العراقية. ويتكون مؤيدوه من منظمة بدر بزعامة هادي العامري وأبو مهدي المهندس، وعصائب أهل الحق تحت قيادة قيس الخزعلي المنشق عن التيار الصدري بدعم إيراني، وحركة حزب الله النجباء وفروعها الأخرى المرتبطة بصورة غير مباشرة وواضحة برئيس الوزراء السابق نوري المالكي وعصائب أهل الحق. وجوهر الأمر أن هذا التيار يعمل داخل العراق تحت غطاء وتنسيق مباشر من قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني.
التيار الثالث "حشد العتبات الحسينية والعباسية": التيار الأكثر ضعفاً من حيث التأثير والعدد والدعم الخارجي. ويشمل الفصائل المدعومة بصورة غير مباشرة من المرجع الأعلى السيد علي السيستاني: لواء علي الأكبر، وفرقة العباس، وفرقة الإمام علي، وبعض الفصائل الأخرى. ولا يتلقى هذا التيار دعماً كبيراً من إيران بسبب ارتباطه بمرجعية النجف، التي ترفض بصورة غير رسمية نظام "ولاية الفقيه" الإيراني. وبالتالي يعارض طموحات تيار "ولاية الفقيه" من "قوات الحشد الشعبي" ويرفضها، ويتفق مع أهداف تيار "سرايا السلام" بالرغم من الخلافات العميقة حول عديد من القضايا الأخرى.
وهناك عدة عوامل تزيد من فرص حدوث صراع داخل "هيئة الحشد الشعبي" بين "سرايا السلام" وأتباع "ولاية الفقيه"، وهي: تناقض الأهداف والأيديولوجيات واختلاف مصادر الدعم الخارجي. كما لدى "سرايا السلام" انتماءات عربية أكثر من أتباع "ولاية الفقيه" المرتبطة بإيران ارتباطاً كلياً ولديها طموحات لإنشاء ما يسمى بـ "دولة العدالة الإلهية" التي تروج إليها "ولاية الفقيه"، التي تتقاطع مع أفكار وطموحات "سرايا السلام" و"حشد العتبات الحسينية والعباسية".
وتتمثل رؤية أتباع "حشد ولاية الفقيه في العراق" وهم "منظمة بدر" و"عصائب أهل الحق" و"حركة حزب الله النجباء"، في تعزيز هذا التحول نحو العملية السياسية، لأن أقل ما يمكن مكافأة التضحيات التي يقدمها هذا التيار هو الحصول على مكاسب سياسية أكبر داخل الدولة العراقية" ووفقا لرؤية هذا الفصيل، ليس من المنطق أن يتم تحقيق النصر العسكري في مختلف المناطق في حين تحصد بعض الكتل السياسية الأخرى هذه المكاسب في صناديق الاقتراع. ويعمل أتباع هذا التيار حالياً على نشر تضحياتهم في الشارع العراقي على نطاق واسع، وتسويق عمليات التحرير التي تجري في مختلف قواطع العمليات لصالح هذا التيار.
ويتفق كل من أنصار "سرايا السلام" و"حشد العتبات الحسينية والعباسية" حول الخطورة الجسيمة التي تشكلها طموحات مجاميع أنصار "حشد ولاية الفقيه في العراق"، إذ تمثل هذه الطموحات انحرافاً واضحاً من المهمة والسياق التي أنشئت من أجلهما بفتوى السيد السيستاني. فقد أصبح حالياً بعض قادة "الحشد" (من "أنصار ولاية الفقيه في العراق") يشكلون خطراً استراتيجياً كبيراً على الدولة العراقية.
ومن ناحية أخرى، أدركت واشنطن ومنذ فترة مبكرة أنه ليس من السهولة والحكمة أن يتم التعامل بإقصاء مع "هيئة الحشد الشعبي" وإبعادها عن عمليات التحرير. وبدلاً من ذلك، أملت واشنطن بأن الدعم المشروط للمؤسسات الحكومية والرسمية العراقية سيهمّش دور هذه المؤسسة تدريجياً ومن ثم يؤدي إلى عزلها عن المعارك التي تخوضها القوات العراقية بدعم دولي، وبالتالي الحد من النفوذ الإيراني. ولهذا السبب، تعمل واشنطن بصفة مراقب، وتقدم الدعم المشروط، بينما تتعامل بحذر شديد مع "هيئة الحشد الشعبي" وقياداتها.
على سبيل المثال، خلال عملية تحرير الفلوجة، التي شنها الجيش العراقي وقوات النخبة وعشائر محافظة الأنبار تحت غطاء جوي مكثف من قبل التحالف الدولي، اقتصر دور "قوات الحشد الشعبي" على "المساندة الخارجية".
ويمكن التماس مؤشرات بداية هذا المشروع عبر التصريحات المباشرة التي قدمها قادة "أنصار ولاية الفقيه في العراق" في "قوات الحشد الشعبي"، التي ترنو إلى التدخل المباشر من قبل هذه الهيئة في العمليات الأمنية للحفاظ على الأمن والاستقرار الداخلي. وهذه مؤشرات واضحة على حدوث تحول تكتيكي نحو الساحة المحلية بعد اقتراب انتهاء مرحلة الحرب ضد تنظيم داعش خلال الأشهر المقبلة.
ووفقاً لذلك، تكمن فكرة قيادة أنصار ولاية الفقيه في العراق التابعة لـ"الحشد الشعبي" بالتحول إلى مؤسسة موازية بجملة من النقاط وهي "باسيج" أو "حزب الله" عراقي جديد: من الواضح أن هناك نوايا وتوجهات إيرانية حثيثة ترغب في أن يتحول ذلك الجزء الموالي لها داخل "قوات الحشد الشعبي" إلى مؤسسة ثابتة ملتصقة في جسد الدولة العراقية، كما هو حال مؤسسات "الباسيج" في إيران ومؤسسة "حزب الله" في لبنان. وستوفر هذه المساحة فرصة كبيرة لإيران للتغلغل بشكل أوسع داخل الدولة العراقية.
يذكر أن تعافي المؤسسة العسكرية العراقية لم يثر استفزاز وحساسية أطراف "الحشد" الأخرى بقدر ما أثار أنصار ولاية الفقيه في العراق رغم قلة عدد هذا الفصيل، مقارنة بالفصائل الأخرى داخل "الحشد الشعبي"، وفقا لارغون.
السيطرة على الدولة أو قيادتها: على الرغم من وجود عديد من النوايا الحسنة لإضفاء الطابع المؤسسي على "هيئة الحشد الشعبي" لمرحلة ما بعد تنظيم داعش، إلا أن طموحات "أنصار ولاية الفقيه" داخل "الحشد" لا تقتصر على كونها جزءاً من الحكومة العراقية تحت مظلة رئيس الوزراء الحالي. وفي الواقع، تريد هذه الجماعة السيطرة على أجزاء كبيرة من الدولة، أو على أقل تقدير أن تكون سلطة لا توجد فوقها هيئة أخرى وليس هناك حدود لنفوذها وتدخلاتها.
صراع البيت الشيعي المسلح: في الوقت الراهن، تعاني "هيئة الحشد الشعبي" من هيمنة تيار "أنصار ولاية الفقيه" الذي بدأ يفرض سياساته على باقي الفصائل التي لا تتفق مع طموحاته وتهميشها. ولا تشاطر جميع فصائل "هيئة الحشد الشعبي" نفس وجهات النظر أو الطموحات بالاستيلاء على الدولة العراقية - وفي الواقع، أن البعض يعارضها علناً. وهناك فصائل مسلحة داخل "هيئة الحشد الشعبي" التي تقف في طريقها وترفض خطتها لتهميش الدولة. ومع ذلك، تميل الكفة بشكل كبير نحو محور "عصائب أهل الحق" و"منظمة بدر" و"حركة حزب الله النجباء" وحلفائهم ومؤسسيهم داخل البلاد، أي رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وأربابهم الإيرانيين في الخارج.
إقصاء المشاريع المضادة وتهميشها: فضلاً عن عملية التحول، يجري تطهير داخل "قوات الحشد الشعبي" لعزل وإقصاء الفصائل التابعة والموالية للعتبات الحسينية والعباسية في النجف وكربلاء (ذوي انتماءات شيعية عراقية عربية). وفي المقابل، تنامى نفوذ المجاميع التابعة لـ"أنصار ولاية الفقيه في العراق". وبالفعل، جمّد نائب رئيس "هيئة الحشد الشعبي" أبو مهدي المهندس رواتب بعض الفصائل داخل "الحشد الشعبي"، التي تتبع مرجعية النجف وقطع تسليحها، وهي تلك التي تعارض مشروع "أنصار ولاية الفقيه"، كما يرجح البعض.
إدارة الرأي العام: أصبح فصيل "ولاية الفقيه في العراق" موضوعاً رئيسياً لحملة العلاقات العامة داخل "الحشد الشعبي". وقد قام رئيس الوزراء حيدر العبادي بزيارة موقع التفجير في الكرادة بعد ساعات من الحادثة، ولكن تم طرده منها بسرعة من قبل المواطنين. كما تم طرد قيادي آخر من "فرقة العباس" (إحدى التشكيلات التابعة للعتبات الحسينية والعباسية في العراق). ومع ذلك، فعندما قام هادي العامري وقيس الخزعلي المحسوبان على جناح إيران داخل "الحشد الشعبي" بزيارة موقع التفجير، تم استقبالهما بحفاوة كبيرة من قبل المواطنين. وتم تسليط الضوء بشكل كبير على هاتين الزيارتين في ذلك الوقت للإشارة إلى ازدياد نفوذ إيران داخل "الحشد الشعبي" مقابل انخفاض شعبية الفصائل الأخرى.
وبشكل عام، يرى الأستاذ في جامعة أربيل علي أغوان إمكانية تقسيم احتمالات المواجهة التي يرجح أن يخوضها "الحشد الشعبي" إلى اتجاهين، الأول وقوع اشتباكات بين فصائل "الحشد" نفسها، والثاني مواجهة مع جماعات خارجية مختلفة مثل البيشمركة. ومن ثم، فإن أي صراع مستقبلي داخل "قوات الحشد الشعبي" سيكون مرتبطا بصورة مباشرة بالانتماءات السياسية لكل تيار، كما أن هذا الصراع المحتمل سيحدث بين فصائل متعارضة ومتقاطعة المصالح والعقيدة داخل التيار. لذلك يرجح عديد من الباحثين أن مستقبل "الحشد" يكاد يكون أشبه ببرميل البارود، الذي قد ينفجر في أي لحظة. وبعبارة أخرى، قد يؤدي تصاعد المشاكل السياسية داخل "الحشد الشعبي" إلى بروز عديد من المشاكل الأمنية، التي يدّعي "الحشد" أنه يقوم بحلها في العراق.