نعيب «مكنزي» وأخواتها والعيب فينا
تقرير مكنزي الاستشاري "السعودية ما بعد النفط" المنشور في ديسمبر الماضي معروف. أما أخواتها فكل جهة استشارية معتبرة حتى لو كانت جهة حكومية.
وابتداء أمهد بثلاث نقاط. الأولى أنه لا تربطني بمكنزي أدنى مصلحة أو صلة مباشرة أو غير مباشرة. والثانية أن الأفكار الواردة في تقرير مكنزي ليست جديدة، فنحوها موجود ضمن كتابات كثيرة في التنمية والإصلاحات الاقتصادية في الدول النفطية وغير النفطية. والثالثة أنه ليس صعبا على كفاءات بلدنا أن تعمل ما يشبه التقرير، وربما أفضل.
جر تقرير مكنزي مناقشات وانتقادات كثيرة. طبعا أعمال مكنزي ليست منزهة عن الخطأ وليست فوق النقد، لكن أي نقد لها أو لغيرها يجب أن يستند إلى علم وموضوعية. أقول ذلك درءا لسوء الظن وسرعة الاتهام الذي يولع به كثيرون، ويجري في عروقهم مجرى الدم.
المشكلة في أن أكثرية من كتبوا استعجلوا بالنقد واستندوا إلى حيثيات ووقائع دون بحث وتقص لمعرفة كنه المشكلة وطبيعتها من مصادرها، أو سؤال أهل الاختصاص فيها. أي أنهم يفتون فيما لم يحيطوا به علما. حتى لا يطول الكلام، سأدعم كلامي بعرض واقعة واحدة هي تجربة البحرين. من أقوى أسلحة منتقدي مكنزي دعوى تجربتها الفاشلة في البحرين. رجعت إلى مضبط الجلسة السادسة في موقع مجلس الشورى البحريني، وتاريخها 1425/10/17 هـ الموافق 2004/11/29 ووجدت فيها مناقشات كثيرة حول تقرير مكنزي عن إصلاح سوق العمل البحرينية. وحيث لم تصلح سوق العمل البحرينية، فمن السهل لوم مكنزي، دون إجهاد النفس في تقصي حقيقة الأمر.
جوهر نصيحة مكنزي لحكومة البحرين أن تحرر سوق العمل. وتحرير سوق العمل في التحليل الاقتصادي تعني أن العمل سلعة (الخدمة تدخل تحت معنى سلعة) مثله مثل أي سلعة في السوق، وجعل قوى العرض والطلب تقرر توظيف اليد العاملة، وليس قانون الإقامة. طبعا التحرير وحده لا يضمن النجاح، لكن كثيرين لسوء فهمهم أو سوء ظنهم، فهموها على أنها ادعاء بأنها خطوة كافية لتحقيق النجاح. وهذه مشكلة في كتابات ومناقشات كثيرين. وللتشبيه، عندما أقول إن الطهارة مطلوبة أو شرط لصحة الصلاة، فهذا لا يعني أنني أرى أنها تكفي، فهناك شروط أخرى.
حقيقة، نصيحة مكنزي لحكومة البحرين ليست جديدة وليست من اختراعها، بل هي من الأبجديات في اقتصاديات العمل. وسبق أن أبدى صندوق النقد الدولي النصيحة نفسها في أكثر من تقرير. أذكر منه التالي الصادر عام 2004:Emerging Strains in GCC Labor Markets. ذكر تقرير الصندوق بلغة صريحة أن دفع المواطنين للعمل في القطاع الخاص يتطلب (ضمن ما يتطلب، أي دون أخلال بمتطلبات أخرى) أن يكون الاعتماد الأول على أجور عمل تحددها السوق. وهذا يتطلب حرية تنقل العمالة labor mobility بغض النظر عن الجنسية. وتبعا، قال تقرير الصندوق أيضا بلغة صريحة أنه يجب خفض الفروق في ظروف العمل وفي الأجور بين القطاعين العام والخاص لتحفيز المواطنين على العمل في القطاع الخاص.
واقعا، صنعنا سوق عمل ثنائية في قوانين الإقامة والعمل فللقطاع العام أحكام وللقطاع الخاص أحكام، وللمواطنين أحكام ولغير المواطنين أحكام. وهذه الثنائية تضر أكثر من أنها تنفع، فهي مصدر البطالة الأول بين المواطنين. وقد كتبت عن هذا أكثر من مقال، آخرها بعنوان "تعريف البطالة في بلادنا ليس له معنى"، نشر في 2016/5/23.
لدينا عادات، ونضع قوانين بعضها لا ينسجم مع المنطق الاقتصادي الذي خلق الله البشر عليه. وعندما تأتي مشورة لإصلاح الوضع، نرى أن العيب في المشورة وليس في عاداتنا وقوانيننا.
ليس مكنزي هو أول المشيرين، بل سبقه صندوق النقد الدولي وغيره. ومن أشهر مشورات الصندوق ورقة مرجعية أعدت بالإنجليزية وصدرت في أبريل 2001، وترجمة عنوانها "مجلس التعاون لدول الخليج العربية: استراتيجية للنمو القابل للاستمرار مع استقرار الاقتصاد الكلي". استعرضت ورقة الصندوق استراتيجيات لإصلاح قطاعات وقضايا عريضة وأساسية في اقتصادات دول الخليج بهدف تحقيق نمو قابل للاستدامة. ما جاء في ورقة الصندوق لا يختلف جوهريا عما جاء في ورقة مكنزي. وقتها كنت أعمل في وزارة المالية وشاركت في مناقشات ورقة الصندوق، كانت أسعار النفط آنذاك متدنية ومالية الدولة في متاعب كبيرة لكن نصائحه أهملت بعد أن بدأت أسعار النفط في تصاعد مستمر منذ عام 2003.
من المهم جدا ألا ننسى أن إسداء المشورة جزء ولكنه لا يكفي. الجزء الأكبر في كيفية التنفيذ. لتقريب الموضوع، نعرف تعبير النبي يوسف - عليه السلام - لرؤيا ملك مصر، وهي مشورة اقتصادية أساسها الادخار سنوات الطفرة.
هل هذا يكفي؟ طبعا لا. لقد تبعها بطلب تولي التنفيذ. يقول سبحانه " قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ" (55) جودة الحفظ تشمل ضمن ما تشمل أمانة الحفظ ومظنة خلوه من الفساد. أما إنه عليم فواضح معناها. لو تولى تنفيذ نصيحة يوسف من لا أمانة أو لا علم عنده، لجعل نصيحة يوسف وبالا على المصريين آنذاك.
جودة المشورة لا تعني بالضرورة جودة التطبيق لا قيمة للمشورة دون تطبيق جيد. وللتشبيه، لا قيمة لتصميم لبناء، إذا لم تحسن اختيار من يبنيه. ماذا بشأن العكس؟ لا ينطبق بالضرورة. أي أن من الممكن أن تكون المشورة فيها عيوب، لكن التطبيق الجيد متوقع أنه يعالج العيوب.
ما مدى جودتنا في التنفيذ؟ موضوع مستقل للنقاش، وبالله التوفيق.