رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


«المنهل» .. تنير العقول والقلوب

بعض صحفنا العريقة كانت وما زالت منابر ننهل منها علوم الثقافة والصحافة، ولكن الظروف التي يمر بها بعض المجلات تستدعي من الدولة أن تقف معها وتؤازرها حتى تستمر كمنابر للتراث والثقافة السعودية الأصيلة.
ومجلة "المنهل" إحدى الدوريات التي قامت بدور كبير في دعم الهوية الوطنية ونشر الثقافة السعودية في كل ربوع مملكتنا الفتية.
قبل أن يصدر نظام المؤسسات الصحافية الأهلية في عام 1963 كانت في حياتنا قصص مبهرة لإصدار الصحف التي ولدت مع تباشير ميلاد المملكة العربية السعودية، ومنها ـ على سبيل المثال ـ أن عبد القدوس الأنصاري تقدم إلى النائب العام لجلالة الملك في مكة المكرمة (الملك فيصل - يرحمه الله) يلتمس الموافقة بإصدار مجلة تعنى بالآداب والآثار والتاريخ وتصدر شهريا من المدينة المنورة.
وتجاوبا مع هذا الطلب رفع النائب العام الملف إلى المقام السامي، وصدرت الموافقة الملكية بالموافقة على إصدار المجلة بالنص الآتي "لا بأس على إصدار المجلة، ولكن بشرط أن يتجنب فيها أمر السياسة والاعتراضات على الحكومة، وألا يتعرض لأي دولة من الدول ولا للحوادث التي تحصل بين الممالك المستعمرة والدول، وإنما هو في الأمور الأدبية والحث على المصالح الداخلية أو أمور الدين خصوصا على مذهب السلف الصالح، وغير ذلك ليس له حق أن يتداخل فيه، وإذا تعدى ذلك فيحصل عليه جزاء". ويمضي الأنصاري في حديثه عن ظروف إصدار المجلة فيقول: إن هذا التوجيه الكريم كان محل اهتمامي الشديد، ولكنه كان في حاجة إلى ترخيص بالإصدار، وحينما طلبت الترخيص لم يصدر في صورة قرار، بل صدر في شكل صك شرعي (حجة) بمنحى حق إصدار المجلة.
وفي شهر ذي الحجة من عام 1355هـ (1937) صدر العدد الأول لمجلة "المنهل"، وجاء في افتتاحية العدد الأول: أما بعد فإن من دلائل نجاح المنهل أن تكون أول مجلة أدبية ثقافية من نوعها تصدر في المملكة في عهد الملك عبدالعزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية الذي جعل مبدأه الحميد أن يأخذ من أسباب المدنية الحديثة كل جديد نافع وصالح لأمته، مع الاحتفاظ بتعاليم الدين الإسلامي الحنيف والاستضاءة بهديه القويم. ففي هذا العهد السعيد نرى الأمة قد بدأت تتحفز للوثوب إلى استعادة مركزها التاريخي الرفيع في مرافق الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والعمرانية، وفي هذا العهد الميمون شاهدنا الأدب السعودي يخطو إلى الأمام خطوات واسعة ملؤها الطموح والاستبشار والابتهاج. ويقول الأنصاري إن الملك عبد العزيز كان دائم السؤال عن أحوال «المنهل» حينما كنت أتشرف بالسلام عليه في قصره العامر في جدة، وكان دائم التوجيه والترشيد ما دعم مسيرة المجلة وقوى عزائمها على مر الشهور والسنين.
وفي يوم من الأيام كنت موجودا في مجلس الشاعر الكبير الأمير عبد الله الفيصل - يرحمه الله - وكان الأنصاري موجودا أيضا في المجلس؛ فسألته كيف استطاع أن يستقطب الأمير عبد الله الفيصل وينشر بعض قصائده في مجلة "المنهل"؟ فقال: لقد تشرفت "المنهل" بنشر بعض قصائده العصماء، لأن ديدن "المنهل" دائما استقطاب الشعراء والأدباء الكبار في المملكة وفي العالم العربي، والأمير عبد الله من الكبار الذين لا يغيبون عن وهج المجلة.
وحينما اقترب عمر المجلة من نصف القرن انتقل عبد القدوس الأنصاري إلى الرفيق الأعلى، وترك لنا "المنهل" وهي في عز شبابها.
ولقد استمرت "المنهل" في الصدور وما زالت حتى بعد وفاة مؤسسها عبد القدوس الأنصاري، ثم وفاة ابنه الوحيد نبيه بن عبد القدوس الأنصاري، ويقوم على إدارتها وتحريرها حاليا الحفيد زهير بن نبيه بن عبدالقدوس الأنصاري.
واليوم نحتفل جميعا بمناسبة بلوغ مجلة "المنهل" عمرها الـ 80 عاما ونيفا.
والحقيقة حينما نتابع مراحل استمرار صدور مجلة "المنهل"، خاصة بعد وفاة مؤسسها، نجد أن هناك كفاحا مضنيا تجشمه ورثة عبد القدوس الأنصاري لضمان استمرار الصدور بالمستوى الرفيع نفسه الذي كانت عليه المجلة في عهد المؤسس.
لقد كانت المجلة تعتمد في مواردها على بندين لا ثالث لهما وهما معونة وزارة الثقافة والإعلام ثم الإعلانات، أما التوزيع فقد كانت المجلة تعاني الأمرين، لأن عشاق الثقافة والتاريخ والأدب طفقوا يتراجعون وبات كثير يغير وجهته إلى الإنترنت وإعلام التواصل الاجتماعي، ولم تستطع المجلة الاحتفاظ إلا بقلة قليلة من محبي الشعر والأدب في مناطق متفرقة من المملكة. وفي السنوات العشر الأخيرة تهتكت قواعد بندي الإيرادات، حيث صدر قرار مجلس الوزراء ـ مع بداية الألفية ـ بإلغاء الإعانات التي كانت وزارة الثقافة والإعلام تقدمها للصحف والمجلات،
ولذلك تعاني المجلة حاليا أزمة مالية خانقة أدت إلى انسحاب كثير من الكتاب الذين ربطوا استمراريتهم باستمرار صرف المكافآت التي كانت تعتبر بالنسبة لهم موردا من مواردهم المالية المهمة.
وإزاء هذه الظروف المالية القاسية آثر الورثة استمرار المجلة على بقاء العمارة التي كانوا يملكونها في منطقة الشرفية في جدة.
وهكذا حوّلت الظروف المالية العصيبة المالك إلى مستأجر، وظل سيناريو القسوة المالية يقتطع ـ مع الأيام ـ من هذا الكيان الثقافي الكبير حتى جاء صليل أسعار الورق وارتفاع تكلفة الطباعة فزادا الطين بلة ما اضطر أصحاب المجلة إلى اتخاذ القرار الصعب بإصدار المجلة شهرا بعد شهر بدلا من إصدارها شهريا.
وفي هذه الظروف المالية القاسية التي تمر بها المجلة اختطفت يد المنون نبيه بن عبد القدوس الأنصاري، وبذلك دخل الجيل الثالث من بيت عبد القدوس الأنصاري في إدارة شؤون أول مجلة أدبية تاريخية في المملكة العربية السعودية.
إننا نضع هذه المجلة التاريخية والثقافية الأولى أمام أصحاب القرار ووزير الثقافة والإعلام لعله يتم دعم المجلة ومساعدتها على الاستمرار حتى تظل منارة ثقافية تنير العقول والقلوب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي