الإدارة الاستراتيجية مقابل الارتهان للواقع

نعيش منذ تراجع أسعار النفط قبل نحو العامين واقعا اقتصاديا جديدا وهو واقع متوقع لأي إنسان، حيث إن الدورات الاقتصادية من سمات الاقتصاد العالمي، فالاقتصاد بين انتعاش وانكماش واستقرار ولكل مرحلة سماتها وفرصها ومشاكلها. وتنقسم الدول والشركات والأفراد في التعاطي مع هذه السمة بشكل عام إلى فئتين الأولى بالفكر والإدارة الاستراتيجية والأخرى ترتهن للواقع وتستجيب له بشكل تقليدي دون تحليل للواقع والمستقبل بالاستناد إلى معارف وخبرات سابقة.
في نقاش مع أحد مديري الشركات السعودية الكبيرة وقد بدا عليه الضيق من تحديات الواقع الجديد قلت له كيف ترون الظروف الحالية؟ وكيف تتعاملون معها؟ هل ارتهنتم لها أم تعملون وفق رؤية استراتيجية؟ فقال لي أولا يجب أن نفرق بين المشاعر وبين الموقف والتعاطي مع الواقع إذ لا شك ولكوننا بشرا نشعر بشيء من الضغط والتعب وربما الضيق نتيجة الظروف الاقتصادية التي تمر بها بلادنا والظروف السياسية التي تمر بها المنطقة والقرارات التي اتخذت في الآونة الأخيرة للتعاطي مع تناقص إيرادات النفط بالتزامن مع تزايد الالتزامات الدولية ومتطلبات مواجهة النزاعات في المنطقة ومنها الحرب في اليمن وتابع ولكن وفي اللحظة نفسها فموقفنا هو التعاطي مع الواقع وفق رؤانا الاستراتيجية التي أعددناها.
قلت له وكيف ذلك؟ فقال إن الشركات الكبرى لا تعمل بردات الفعل أو بالاستجابة للمتغيرات وإنما تعمل وفق استراتيجيات تقوم على تحليل البيئة بأبعادها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية واستشراف تغيراتها كما تقوم على تحليل الشركة ومنافسيها وعملائها ومن ثم بناء استراتيجية تقوم على ورش عمل ولقاءات فكرية من قبل كبار موظفي الشركة واستشاريين ذوي خبرة وتجربة، وبالتالي فنحن لدينا خطة استراتيجية وخطط عمل مرحلية نعمل وفقها بدرجة مقبولة من المخاطرة وكثير من التحديات ومن تلك التحديات الضغط الكبير من حملة الأسهم الذين يتوقعون أن ندير الشركة بالارتهان للواقع ويطالبوننا بقرارات تعنيهم أكثر مما تعني مستقبل الشركة ومن ذلك توزيع الأرباح باستمرارية وقت الانتعاش متناسين أنه لا محالة من مرحلة انكماش مقبلة.
قلت له، هل من الممكن أن توضح لي أكثر؟ فقال لا تتخيل الضغط الذي واجهناه عندما قررنا الاستثمار في مشروع عملاق لا يلائم احتياجات المجتمع والمنطقة وقت الانكماش في أواخر التسعينيات ونحن نرى بشائر الانتعاش ونرى أيضا التحول المتوقع باحتياجات المجتمع وعندما انتهينا من تنفيذه جاء بالخير الكثير لأن تسويقه وتشغيله انطلقا في زمن الانتعاش وزمن الحاجة الفعلية إلى منتجاته وعندها نعتنا الرافضون بالأذكياء والعباقرة رغم أننا لم نزد على استخدام التخطيط الاستراتيجي اللازم لكل شركة كبرى، ولك أن تتخيل المشاريع التي بدأ بها كثير من الشركات وقت الانتعاش استجابة للواقع وها هي تنهيها وقت الانكماش كيف ستكون عائداتها للسنوات الست أو السبع المقبلة؟ بكل تأكيد سوف تعاني وربما تباع بأسعار بخسة لتسديد تكاليف تمويلها، مبينا أن شركته تقتنص مثل هذه الفرص حاليا بأسعار معقولة جدا.
قلت له وكيف واجهتم الواقع الحالي؟ قال من خلال الخبرات السابقة التي مررنا بها ومن خلال ما قدمه لنا الاستشاريون نحن على يقين بأن وقت الانكماش له معطياته وفرصه وأسلوب إدارته ونحن نعمل بنفس النشاط والهمة والتفاؤل والأمل لبناء الإيرادات المستدامة واغتنام الفرص والتهيؤ للسنوات المقبلة مع العلم أننا واقعون لجهة الإيرادات والأرباح إذ إنه ليس من الصحيح أن تتوقع أرباحا في ظروف صعبة بالأرباح نفسها التي تتوقعها في الظروف المواتية، فالمهم في مرحلة الانكماش عدم السقوط أولا وعدم التعثر ثانيا وتحقيق إيرادات مستدامة وأرباح مستقرة ثالثا حتى تتحسن الظروف وبكل تأكيد أوقات الجفاف ليست كأوقات الأمطار الوفيرة.
ومن جانبي أقول مع الأسف الشديد كثير من المؤسسات والشركات والأفراد وبعض الأجهزة الحكومية يميل إلى الارتهان للواقع والاستجابة له بردات الفعل السريعة والتقليدية التي غالبا ما تقدم حلولا على المدى القصير ومشاكل متشعبة على المديين المتوسط والطويل بخلاف الحلول التي تستند إلى خطط استراتيجية طويلة الأمد تراعي معطيات الواقع والمستقبل كافة وتتكئ على خبرات محلية ودولية مرت بحالات مماثلة وتجاوزتها بحلول إبداعية ناجحة، ولذلك ولما تمر به بلادنا من ظروف اقتصادية ترتبت عليها قرارات غير شعبية حان الوقت للتوعية بكيفية التعاطي مع الظروف والمعطيات كافة واستثمار ما تقدمه هذه الظروف من فرص وتجنب مخاطرها إضافة إلى ربطها ببعضها البعض ليرى الجميع كيفية التعاطي معها ككتل مرحلية مترابطة غير منفصلة في مسيرة الأجهزة الحكومية والمؤسسات والشركات والأفراد.
ومن المؤسف حقيقة أن الكثير من أصحاب رؤوس الأموال حال ظهور بوادر الانكماش ولعدم تطبيقهم خططا استراتيجية نراهم سرعان ما يحاولون تسييل ما يمكن تسييله والتولي إلى خارج البلاد وكأنه ليس جزءا من هذا الوطن وابنا له يمكن أن يسهم بحلول استراتيجية وبمبادرات إبداعية وبتفاعل إيجابي مع المسؤولين وأجهزة الدولة لتجاوز المرحلة وتحقيق الأهداف التنموية في الظروف الاقتصادية والسياسية كافة.
ومن المؤسف أيضا أن البعض الآخر ولعدم عمله وفق رؤى استراتيجية تجده يتحول لبيات استثماري طويل الأجل يجعل أمواله تثبت خارج الدورات الاقتصادية ما يؤدي إلى دفع الأوضاع الاقتصادية لمزيد من الانكماش وهو بخلاف ما يفعله الاستراتيجيون الذين يتحولون من مجال إلى آخر ومن قطاع إلى آخر ويقدمون المبادرات تلو الأخرى لتنمية أعمالهم بالتزامن مع تنمية بلادهم.
ختاما، نحن نمر بظروف اقتصادية تتطلب تكامل جهود الحكومة بجهود القطاع الخاص وجهود الأفراد لاستثمار معطيات الوضع القائم وفق رؤى استراتيجية تحترم الدورات الاقتصادية كحقيقة، وتعلم أن التحديات ظروف محفزة تصهر الرجال وتشحذ الهمم وتوجد الإبداع وتراكم الخبرات وتنطلق بالشركات والأوطان إلى آفاق واسعة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي