رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


بين اقتصاد القطاعات واقتصاد المدن

رفعت خطة التنمية التاسعة من أهمية المدن في الاقتصاد السعودي، حيث وضعت التنمية المتوازنة بين المناطق هدفها الرابع، ثم جاءت خطة التنمية العاشرة لتؤكد المضمون نفسه من حيث النص أهمية الاستفادة من الميزات النسبية للمناطق في تعزيز التنويع المكاني للأنشطة الاقتصادية ومع التوسع في إنشاء مناطق صناعية وحاضنات للأعمال وللتقنية؛ لتحسين استغلال تلك الميزات. وهنا بيت القصيد فالتخطيط الاقتصادي يجب أن ينتقل من الاهتمام بالقطاعات إلى الاهتمام بالمزايا النسبية لكل مدينة ومنطقة، بغض النظر عن القطاعات ذات العلاقة، فالتنمية المتوازنة تهتم بالمزايا النسبية لكل منطقة ومدينة ومن ثم العمل على تعزيزها، بحيث تتحول إلى مركز اقتصادي في تلك المزايا، وفي المجموع الشامل للاقتصاد الكلي للبلاد سنجد اقتصادا متوازنا يعتمد بعضه على بعض، فبينما تنتج هذه المدينة شيئا يستهلكه أهالي منطقة أخرى نجد أهل هذه المنطقة يستهلكون إنتاج مناطق أخرى وهكذا يتكاتف المجتمع ويحقق الاقتصاد نموه الذاتي بعيدا عن المؤثرات الخارجية للاقتصاد. فالتوازن الذي يشار إليه في مصطلح التنمية المتوازنة لا يعني التساوي بالضرورة، فليس المقصود أن تحصل كل مدينة ومنطقة على البنية الاقتصادية نفسها التي حصلت عليها مدينة أخرى، بل المقصود هنا، وكما نصت عليه خطط التنمية، أن تكتشف كل مدينة ميزاتها النسبية ومن ثم ترتكز عليها في بناء اقتصادها، الذي على أساسه سوف يتم تخصيص البنى التحية الاقتصادية اللازمة من مدن صناعية أو تقنيات متخصصة.
فالتفكير على أساس القطاعات الاقتصادية مع تجاهل مراكز نموها الأساسية، سيجعل الكثير من المدن خارج إطار التنمية الاقتصادية الشاملة، وفي نهاية المطاف ستتعزز ظاهرة الهجرة خاصة عند الشباب من المدن التي تفتقد القطاعات المستهدفة إلى المدن التي تزدهر فيها، فمثلا تركيز الاقتصاد السعودي في فترة ما على القطاع النفطي والبتروكيماوي، صنع مدنا صناعية ومناطق خاصة بهذه القطاعات وهجرة الكفاءات نحو هذه المدن، ونتج عن ذلك استبعاد للمدن الأخرى التي ليس لديها قدرة على استقبال هذه القطاعات حتى أصبحت بعيدة عن مسار الحدث الاقتصادي وأصبحت عالة على مشروع التنمية في البلاد ككل، لكن بوضع نموذج التنمية المتوازنة في مساره فإن التركيز على المدن واستكشاف قدراتها الذاتية الكامنة فيها منذ القدم سيولد قيمة اقتصادية تراكمية للبلاد، وستتمكن كل منطقة من إيجاد وظائف كافية لكل الشباب فيها ومن ثم تتراجع ظاهره الهجرة وتنمو المدن بناء على إسهامها الفعلي في الاقتصاد.
الأمثلة على هذا كثيرة جدا، فالمملكة غنية بتنوع جغرافي وهو بدوره أوجد تنوعا ضخما في الموارد الاقتصادية، فالمدن على السواحل قادرة على استكشاف كثير من الميزات الصناعية والزراعية فيها إضافة إلى اقتصاد السياحة، وبعض المدن لها خصائص خاصة بها، مثل سهولة استزراع أنواع معينة من الأسماك وتصديرها، وبعض المدن لها ميزات بتوافر معادن مهمة فيها مثل الحديد، ويمكن إنشاء مصانع لصهر وإنتاج الحديد، وبعضها لديها توسع زراعي مهم في التمور أو الزيتون، والبعض الآخر لديها إمكانات ضخمة في الأيدي العاملة، وهناك مساحات شاسعة صالحة لبناء مصانع عالمية. ورغم أن هذا غيض من فيض مما تملكه المدن لدينا من ميزات، إلا أن نجاح التنمية المتوازنة والتحول إلى اقتصاد المدن، يتطلب جهدا كبيرا من الدراسة والتفكير واستكشاف الإمكانات الاقتصادية لكل منطقة والتفكير خارج الصندوق في ذلك. ومن المناسب جدا أن "رؤية المملكة 2030" قد تنبهت إلى أهمية هذا الموضوع حيث أشارت إلى بناء مناطق خاصة تعتمد على المزايا التنافسية لكل منطقة بحيث تتمتع المناطق التي تكتشف مزاياها الخاصة بأنظمة ولوائح تجارية خاصة، وسيكون من شأن ذلك تعزيز الاستثمارات النوعية في تلك المناطق.
وإذا كانت "رؤية المملكة 2030" قد اهتمت بشكل واضح باقتصاد المدن، كما أن خطط التنمية أشارت إلى ذلك ووضعت لها أهدافها الخاصة، فإنه لا ينقصنا التخطيط ورسم الهدف، لكن التنفيذ هو المحك الأساس في هذا التحول الضروري للاقتصاد الوطني.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي