المؤثرات السيئة الكبيرة .. منظور عالمي للدَّين
في غمار "الكساد الكبير"، حذّر الاقتصادي الأمريكي إيرفينج فيشر من أخطار المديونية المفرطة والضغوط الانكماشية التي تعقبها. وكان يرى أن الدين والانكماش مؤثران سيئان كبيران. ولا يزال شبيهاهما الأقربان – الدين شديد الارتفاع والتضخم شديد الانخفاض – يؤثران في الاقتصاد، على الأقل بالنسبة للاقتصادات المتقدمة.
غير أن الصورة الكاملة للدين العالمي ظلت خافية حتى الآن. ولأول مرة، ذكر عدد أكتوبر 2016 من تقرير الراصد المالي رقما محددا لحجم الدين يغطي جميع أنحاء العالم تقريبا. والصورة ليست مشرقة. فالدين العالمي بلغ مستويات مرتفعة قياسية تصل إلى 152 تريليون دولار أو 225 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي. وتمثل التزامات الشركات غير المالية والأسر – أي الدين الخاص – قرابة 100 تريليون دولار أو نحو الثلثين.
وكما حذر فيشر، تمثل هذه المستويات المرتفعة تأثيرا معاكسا رئيسا يعوق التعافي الاقتصادي، ما يفاقم مخاطر السقوط في دوامة يتعاقب فيها الدين والانكماش. ولكن مستويات الدين ليست واحدة في كل مكان. ولا المخاطر متساوية. بل كانت هناك اتجاهات شديدة التباين:
- أولا، كان الحد من نسب الرفع المالي متفاوتا في الاقتصادات المتقدمة واستمر تصاعد نسب الدين الخاص في معظم البلدان داخل هذه المجموعة. وفي الوقت نفسه، ارتفع الدين العام لأسباب منها انتقال ديون القطاع الخاص المعدومة إلى الميزانيات العمومية للقطاع العام.
- ثانيا، أدى انخفاض أسعار الفائدة إلى ارتفاع حاد في دين الشركات غير المالية في عدد قليل "بضع أسواق صاعدة" ذات تأثير نظامي، ومن أبرزها الصين. ولأن التدهور السريع للميزانيات العمومية الحكومية في كثير من اقتصادات الأسواق الصاعدة كان مسبوقا بارتفاع حاد مماثل أيضا، فإن توسع اقتصادات الأسواق الصاعدة في الديون أخيرا يثير تساؤلات حول مدى سلامة مراكز المالية العامة التي تستند إليها.
- ثالثا، ارتفع الدينان الخاص والعام في البلدان منخفضة الدخل بسبب زيادة عمق أسواقها المالية – من حيث الحجم والسيولة – وتحسن فرص النفاذ إلى الأسواق، ولكن نسب الدين لا تزال منخفضة عموما في هذه البلدان. كذلك ساعد التقدم في مجال التمويل المصغر والصيرفة المتنقلة على تعزيز الاحتواء المالي. وشريطة أن تظل الديون في حدود يمكن تحملها، يمكن القول إن التطور المالي مفيد وينبغي اعتباره جزءا من النمو الاحتوائي.
وقفة للتأمل
الاهتمام بالدين الخاص المفرط ليس مقصورا على احتمالات تحوله إلى دين عام، إذ إنه يرتبط بالأزمات. وإضافة إلى ذلك، يلاحظ أن الركود المالي أطول وأعمق من الركود المعتاد، وتترتب عليه خسائر أكبر في الناتج، كما يتسبب في فقدان وظائف عدد أكبر من السكان. وفي نهاية المطاف، تتصل كل هذه الأمور بالدين العام وعجز الموازنة العامة.
ويتسبب ضعف مراكز المالية العامة في ركود مالي أسوأ، وهو ما يصدق بوجه خاص على اقتصادات الأسواق الصاعدة التي غالبا ما تجري تخفيضات كبيرة في الإنفاق العام أثناء الأزمات. ويوضح هذا النمط المتكرر أن السياسة المالية العامة التي تتوسع بشدة في أوقات اليسر غالبا ما تفرض تخفيض الإنفاق في أوقات العسر، وهو ما ينطوي على تكلفة باهظة أثناء الأزمات المالية. ولكن، حتى في غياب الأزمات، قد يتسبب ارتفاع الدين الخاص في إعاقة النمو، حيث ينتهي الأمر بالمقترضين المثقلين بالديون إلى إجراء خفض حاد في الاستهلاك والاستثمار.
وتمثل بيئة النمو الاسمي المنخفض السبب الرئيس وراء عدم تحقيق تقدم في خفض نسب الرفع المالي في الاقتصادات المتقدمة – حيث توجد أعلى مستويات الدين الخاص. ويمكن استخلاص معلومات عظيمة الفائدة من خلال مقارنة الولايات المتحدة بمنطقة اليورو، حيث خفضت الولايات المتحدة دينها الخاص أكثر بكثير مما خفضته منطقة اليورو في أعقاب الأزمة، ولكنها حققت معدلات نمو أعلى أيضا.
فهل ينبغي تجنب الدين بشكل مطلق نظرا للمخاطر القائمة وأجواء عدم اليقين المصاحبة؟ الواقع أن الدين ضرورة لريادة الأعمال والابتكار، ومن ثم النمو. لكن الدين الخاص المفرط هو ما يجب أن تتجنبه البلدان. وبالتالي، ينبغي أن تضمن السياسات الرقابية والتنظيمية مراقبة الدين الخاص وبقاءه في مستويات يمكن تحملها. وتستطيع السياسة الضريبية كبح الرفع المالي المفرط بالتخلص التدريجي من التشوهات الضريبية وتفضيل الدين على حصص الملكية في الشركات، سواء المالية أو غير المالية.
لاعبون جدد في لعبة جديدة تماما
في الوقت نفسه، يمكن أن تساعد سياسات المالية العامة الداعمة للنمو على تيسير التصحيح المطلوب في البلدان الغارقة في هوة الدين الخاص المفرط. وسيعتمد الحل، بالتأكيد، على ظروف كل بلد وما لديه من موارد مالية ربما يكون قد حققها بالادخار وتخفيض الدين العام في أوقات اليسر.
وبوجه عام، يتعين التبكير بحل المشكلة الأساسية في البلدان التي يخضع نظامها المالي لضغط حاد. ويمكن تحقيق نتائج فعالة للغاية باتخاذ إجراءات موجهة جيدة التصميم في شكل برامج ترعاها الحكومة لتخفيض الدين العام (كتقديم الدعم للدائنين من أجل إطالة آجال الاستحقاق أو الضمانات) وتدابير للتعجيل بتنقية الميزانيات العمومية (من خلال شركات إدارة الأصول على سبيل المثال).
ويشكل تصميم هذه التدابير أهمية كبيرة في الحد من تكلفتها وتخفيف خطرها المعنوي. وعلى وجه الخصوص، ينبغي أن تكون موجهة لقطاعات معينة أو أفراد معينين، كما ينبغي إخضاعها لشروط، وتضمينها ترتيبات للمشاركة في الأعباء مع المقترضين. كذلك ينبغي أن تصاحب هذه التدابير إجراءات قوية للإعسار والإفلاس.
ولكن، في النهاية، لا تستطيع السياسة المالية العامة العمل بمفردها، إنما ينبغي أن تدعمها سياسات مكملة، بما فيها السياسات النقدية والهيكلية، وأن يتم تنفيذها ضمن أطر سياسات منسقة وموثوقة لتحقيق الهدف المنشود.
أما المشهد الذي نتابعه الآن، فقد حان الوقت للتخلص مما يشوبه من مؤثرات سيئة كبيرة والانتقال إلى مشهد مشوق جديد تماما نترقب فيه تعجيلا وشيكا للنمو الاسمي.