عالم يعيش على أموال الدَّين
لا يتعافى الاقتصاد العالمي بالصورة التي تحاول بعض الجهات الترويج له. جهات عالمية كبرى أكثر واقعية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التعاون الدولي وغيرها، أكدت مرارا أن الوضع الاقتصادي العالمي ليس جيدا بما يكفي للحديث عن تعاف طال انتظاره، منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008. ورغم أن عددا لا بأس به من البلدان أحرز تقدما في مجال التعافي " بعد الأزمة " ، إلا أن أي مشكلة " ولا نقول مصيبة " تظهر على الساحة الاقتصادية تؤرقها إن لم تكن تهددها. فأزمة مصرف كمصرف "دويتشه" تهز العالم الآن، في حين أنه كان يتعين على هذا العالم أن يكون أكثر تحصينا أمام أزمة مصرف واحد فقط.
لا عجب أن يصل حجم الدين العالمي إلى 152 تريليون دولار، أي ما يوازي ضعفي إجمالي الناتج العالمي ككل! وهذه نسبة مروعة بالمفهوم الاقتصادي، خصوصا مع تباطؤ وتيرة النمو التي تعترف به وتحذر منه المؤسسات الدولية الرصينة في كل المناسبات. فالعالم يعيش بالديون، هذه هي الحقيقة، في وقت لا توجد فيه مؤشرات على إمكانية محاصرة هذا الدين بالصورة الملائمة، أو التقليل من ضرباته. دول كبرى يصل حجم الدين العام لديها إلى أكثر من حجم ناتجها المحلي الإجمالي. ولماذا نذهب بعيدا؟ هذه الولايات المتحدة تعتبر خير مثال على ذلك، مع الأخذ في الاعتبار قدرتها على الاستمرار بفضل الإنتاج ومعايير اقتصادية أخرى تزيد من قوتها.
والحق أن الديون العالمية لم تتفجر بفعل الأزمة الاقتصادية عام 2008، فهي موجودة بمستويات متفاوتة، والسبب الرئيس وراء عدم طرحها على الساحة، أن العالم كان يتبع نظاما ماليا ليس نزيها بما يكفي لفتح ملفاته على الملأ. الذي فتح هذه الملفات ليس سوى الأزمة المشار إليها، ونشر تبعاتها في الأجواء حتى الآن. المثير في الأمر، أن غالبية الديون العالمية التي تبلغ 152 تريليون دولار تتركز في البلدان ذات الاقتصادات الغنية. علما أن هناك صعوبة في وصف هذه الاقتصادات بالغنية في حين تسيطر على الجزء الأكبر من هذه الديون. وفي الوقت الذي تحبس فيه المصارف العالمية أنفاسها حيال الأزمة الوشيكة أو الممكنة لـ "دويتشه بنك"، يعيش العالم أيضا هواجس انفجار أزمة في الصين تتعلق بالديون، ولاسيما تلك المتعثرة التي بلغت حسب التقديرات (وليس الأرقام الرسمية) أكثر من تريليون دولار.
أي أن الاقتصاد العالمي يزخر بالديون من كل الجهات. ولا فرق هناك بين دولة شرقية أو غربية. الكل في الدين سواء. النقطة الأهم هنا، تتعلق بكيفية مواجهة هذا الدين الهائل، أو على الأقل تخفيف آثاره على الساحة الاقتصادية إذا ما تفجر بالفعل. وهنا تظهر مشكلة أخرى، ترتبط مباشرة بمعدلات النمو العالمية التي تتباطأ، ما دفع عديدا من المؤسسات الدولية الكبرى إلى تخفيض توقعاتها عدة مرات خلال العام الجاري لهذا النمو. فقد أعرب مسؤولون لدى صندوق النقد عن رغبتهم في ضرورة بذل الحكومات مزيدا من الجهود لدعم النمو، في أعقاب الإعلان عن حجم الدين العالمي. لا يمكن رمي الديون العالمية على كاهل الأزمة الاقتصادية، لأن معدل الاقتراض تجاوز مستويات النمو العالمي في السنوات الأخيرة، مرتفعا من 200 في المائة من حجم الناتج المحلي الإجمالي عام 2002 إلى 225 في المائة في العام الماضي. والمصيبة البارزة هنا، أن غالبية دول العالم دخلت مرحلة الركود وليس انخفاض النمو، ما يعني أن الديون العالمية سترتفع إلى معدلات أكبر وأكثر خطورة.