أهمية تطوير المراحل الأولى من التعليم
هل حدث تغيير أو تطور في وسائل وطرق التعليم في بلادنا خلال العقود الماضية؟ شيء ما يلفت النظر أو يبشر بتغيير في التفكير؟ لا نظن ذلك. الأمر الواضح هو أن التعليم في السنوات الأخيرة مر عليه عدد من الوزراء لم يبق أي منهم على رأس العمل أكثر من سنة أو سنتين، وهي مدة قصيرة لا يمكن أن تمكن الوزير مهما كانت قدراته الذهنية وعبقريته أن يعمل على التغيير إلى الأفضل. قد يكون هناك مجال واحد يستطيع أي إنسان مؤهل أن يبدع فيه، وهو اختيار موضوع بعينه، يخطط له ويضع لتنفيذه برنامجا معينا وثابتا ثبوت مطلع الشمس والقمر، حتى إذا أتى من بعده تكون مهمته إكمال المشروع وليس دفنه، كما يحصل في كثير من الأحوال. نعم، حدثت تغييرات جوهرية في المواد الدراسية، ولكن الأساس لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر منذ عرفنا التعليم، ألا وهو الحرص على التلقين وعدم فتح المجال للطالب للتفكير والإبداع والمقدرة الذاتية على التعبير وهو في سن مبكرة. فتجد أحدنا يتخرج في الجامعة وهو لا يحسن الحديث ارتجالا إلا ما ندر وبصعوبة، بينما أغلب شعوب الأرض لديهم قدرة على التعبير التلقائي أمام أي جمع من البشر. كل ذلك نتيجة لإرغام الطالب أو الطالبة في مدارسنا على الحفظ من كتب المقررات، وعلى وجه الخصوص، المقررات الدينية والاجتماعية. وكان من الممكن تدريس الموضوع من الكتاب وإعطاء الطالب أو الطالبة فرصة للفهم والتعبير عما فهم. وعند طلب الاختبارات يكتفى بما يعبر به الطالب حسب فهمه ويعامل على هذا الأساس، وليس كما هو مذكور في كتب المقررات حرفيا.
ولعل من أهم معوقات تطوير التعليم في بلادنا، مركزية القرار. وهو من آثار الشعوب غير المتقدمة، التي يحاول المسؤولون من خلالها السيطرة على مجال واسع، ما يفقد الإدارة كثيرا من كفاءة الأداء، فليس من الضروري أن نطبق نظاما جديدا على جميع المدارس دفعة واحدة، هذا غير عملي ولا هو ممكن، بل الأفضل أن نختار، في أول الأمر، نسبة متواضعة من المدارس في المدن الكبيرة، على سبيل المثال، ونختار معلمين مؤهلين لهذه الغاية، ومع نجاح الفكرة، نتوسع تدريجيا حتى يعم البرنامج بقية المدارس، مع مراقبة دقيقة أثناء التجربة حتى لا تفشل ونعود إلى سابق عهدنا في التعليم. وقد نضطر إلى الاستعانة بالخبرات الأجنبية من الذين معروف عنهم نجاحهم في التعليم، وما أكثرهم. ولعل أصعب الأمور بدايتها. فعلى سبيل المثال، أتمنى لو أن وزارة التعليم اطلعت من كثب على أسلوب التعليم في مدارس أرامكو هنا في السعودية، خصوصا المراحل الأولى من الدراسة، ليشاهدوا الطريقة التي يتعامل بها المعلم أو المعلمة مع الطلبة الصغار، ثم يقيسوا مهارات طلبة الصفوف النهائية، ومرحلة الكفاءة، مع طلبة مدارسنا، ويقتبسوا منها ما يناسب بيئتنا وتقاليدنا.
عمر التعليم الحديث في المملكة يزيد على 85 سنة، ومع ذلك فنحن لا نزال نسير على النهج نفسه، لا تجديد ولا إبداع ولا تطوير خارج الصندوق. تجد هناك طلبة مبدعين في شيء من نواحي الحياة، ولكنهم لا يطيقون دراسة مواد معينة، ما يعيق تقدمهم ويقضي على طموحهم وإبداعهم، فالبعض لا يريدون دراسة الرياضيات أو اللغة الإنجليزية أو الفيزياء والكيمياء، وهم متفوقون في مجالات أخرى. فلماذا نصر على تحطيم مستقبلهم وآمالهم؟ وما الذي يمنع من أن نفصل بعض الطلبة ونهيئ لهم برامج خاصة بالمواد التي يبدعون في إتقانها ويظهرون تفوقا متميزا فيها؟ ويقضي الطالب في المدرسة عمرا من حياته، بل هي أحيانا الأساس في تربيته، إلى جانب ما يتلقاه البعض من والديهم. فلنحسن التربية. النقل إلى المدرسة بواسطة المركبات الخاصة الفارهة ليس من الأمور التي تساعد على صنع جيل يقدر الحياة. امنعوها واستخدموا النقل العام لجميع الطلبة بالاشتراك مع الموسرين من الأسر الكريمة. وهذا ينطبق على المدارس الخاصة، فلا نقل إلا عام. ويكون لإدارة المدرسة دور كبير وصلاحيات بقدر المسؤولية الملقاة على عاتقها. وهناك أمور كثيرة من الواجب أن نرسخها في عقول أبنائنا، وهي تحمل المسؤولية، كجزء من المواد الدراسية. فالمعروف عن الجيل الحاضر هو الاتكالية والاعتماد على الخدم والعمالة الأجنبية لتأدية كثير من أمورنا وأعمالنا الروتينية. فمثلا، من حسن التربية أن نطلب من الطلبة تنظيف المدرسة على الأقل يوما في الأسبوع، والشوارع المحيطة بالمدرسة كل شهر. هذه أساسيات سوف تصنع من الأجيال القادمة أمة لا تستنكف القيام بأي عمل، كما هو حاصل اليوم. ومن الملاحظ عدم منح مديري المدارس ما يميزهم عن غيرهم من المراتب والمكافآت، كما هي الحال مع مديري الأقسام في الشركات والمؤسسات العامة، فمدير المدرسة يتحمل مسؤولية كبيرة لا تقارن بمسؤولية المدرس، وهو أيضا يقضي وقتا أطول على رأس العمل وربما خلال عطلة الأسبوع، فلا بد من مكافأته على ذلك، وذلك حتما سيرفع من كفاءته ويحسن من أدائه.
ولفتة أخيرة، ولكنها مهمة جدا، علموا الطلبة خلال سنوات الدراسة وبطريقة علمية وذكية أنه ليس من الضروري أن يلتحق جميع الطلاب بالجامعات، واضربوا لهم أمثلة حية بموجب الإحصاءات الرسمية من دول أخرى متقدمة. ولا بد من إشراك بعض الاجتماعيين المتخصصين والمتخصصات لينبهوا رجال ونساء المستقبل بأن الشهادة الجامعية ليست مقياسا للنجاح في الحياة. فنظرة سريعة على التخصصات التي يتخرج بها الطلبة والطالبات، التي تظهر أن نسبة الشهادات النظرية تتعدى 70 في المائة من خريجي الجامعات السعودية، وهو ضياع للمجهود وعدم فائدة للمجتمع، فهناك تخصصات أكثر نفعا وأكبر مردودا، إذا تخلصنا من عقد الشهادات الجامعية. بشرط أن نرفع من قيمة ورواتب أصحاب التخصص المهني، كما يفعل كثير من المجتمعات. ونحن نعلم أن ما نقوله ونتحدث عنه في هذه العجالة ليس بالأمر السهل، فهو يحتاج إلى إرادة وإلى تخطيط وإلى خريطة طريق ذات أهداف بعيدة المدى. فالأمر يتعلق بتغيير بعض الأساليب والسلوك الذي يتميز به مجتمعنا من أجل حياة ومستقبل أفضل.