المركز المالي الخاسر في كل الأحوال
ليس جديدا تقديرات حجم الخسائر التي ستتكبدها بريطانيا في أعقاب انفصالها عن الاتحاد الأوروبي. في الواقع هذه التقديرات ظهرت حتى قبل الاستفتاء التاريخي البريطاني على الخروج في يونيو الماضي. وكانت في معظمها كبيرة وخطيرة. لكن المعسكر الذي أراد خروج بريطانيا، انتصر في النهاية بعد سلسلة من "الأكاذيب" وفق وصف معسكر البقاء. الخسائر تشمل بريطانيا كلها، أي مع أقاليمها، ولا سيما اسكتلندا التي لم تتوقف عن التحذيرات من مغبة الخروج، بحيث أعلنت رسميا، أن اقتصادها سيخسر ما بين 5 و6 في المائة على الأقل إذا ما تم الخروج بالفعل، وأن أعدادا تصل إلى 80 ألف شخص سيخسرون وظائفهم بمجرد بدء تطبيق اتفاق الخروج المشار إليه.
وإذا كانت كل القطاعات الاقتصادية في المملكة المتحدة قد حذرت من هذه الخطوة التاريخية الخطيرة، فإن القطاع المالي أكثرها خوفا، بل تهديدا. لماذا؟ لأن لندن (التي صوتت لمصلحة البقاء في الاتحاد بأغلبية ساحقة)، ستفقد موقعها كأهم مركز مالي في العالم كله، بصورة تفوق حتى مدينة نيويورك. وهذه المكانة لم تحصل عليها العاصمة بسهولة، لأنها جاءت نتيجة تاريخ مالي طويل، يضاف إليه بالطبع سهولة دخول سوق الاتحاد الأوروبي، استنادا إلى عضوية البلاد فيه. فلا عجب عندما تؤكد مجموعات مالية كبيرة في بريطانيا، أن الانفصال الذي وصفته بـ "الصعب" سيكلف القطاع المالي المحلي أكثر من 38 مليار جنيه استرليني (48.34 مليار دولار). والسبب، أن الانفصال سيقيد حرية دخول شركات القطاع إلى السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي.
لا يمكن لأي مؤسسة مالية خسارة هذه الحرية في سوق هي الأكبر في العالم أجمع، ما يهدد مكانة لندن المالية عالميا. وحتى لو نجحت الحكومة البريطانية بعقد اتفاق جيد مع الاتحاد، فإن الأمر لن يكون سهلا، لأن الجانب الأوروبي أكد مرارا، أنه لن يكون هناك اتفاق عالي الجودة إذا ما أصرت بريطانيا على التمسك بعدم السماح بحرية الحركة بين الدول الأوروبية. إنها الركيزة الأولى للاتحاد برمته التي قام عليها. وخسائر القطاع المالي البريطاني، ستشمل بصورة رئيسة الوظائف، التي ستنتهي بالفعل بمجرد بدء عملية الخروج. والتقديرات تصل إلى 100 ألف وظيفة على الأقل. دون أن ننسى، أن المسؤولين البريطانيين يؤكدون أيضا أن بلادهم ستخسر أكثر من 50 مليار استرليني من عوائد الضرائب.
وكما هو معروف، فإن القطاع المالي في لندن يحقق عائدات تصل إلى أكثر من 200 مليار استرليني سنويا، ويوظف نحو 1.1 مليون شخص، في حين تحصل الحكومة على ضرائب سنوية من هذا القطاع تصل إلى 65 مليار استرليني. إنها تكلفة عالية لبريطانيا لا يمكن تفاديها، بصرف النظر عن طبيعة الاتفاق المقبل بينها وبين الاتحاد. ناهيك عن الخسائر الناجمة عن إمكانية تنفيذ تهديدات من قبل شركات تصنيع السيارات (مثلا) بالخروج من بريطانيا، والاتجاه نحو أي بلد أوروبي ضمن نطاق الاتحاد. إضافة طبعا إلى خسائر الوظائف البريطانية التي تعتمد بصورة مباشرة على عضوية الاتحاد. إنها مصيبة اقتصادية بكل معنى الكلمة، تدرس الحكومة حاليا كيفية تقليل ضرباتها.
قد لا تكون الخسائر الضخمة للقطاع المالي البريطاني مهمة، لو قورنت بخسائر لندن لموقعها كأهم مركز مالي عالمي على الإطلاق. وهذا المركز من الصعب استعادته تحت أي ظروف أو اتفاقيات، خصوصا أن جانبا رئيسا منه يعتمد على القنوات المفتوحة بين المملكة المتحدة والسوق الأوروبية كلها.