رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


هل أضاع الإعلام العربي بوصلته؟

هناك ثلاث مدارس فلسفية وفكرية تعنى بتحليل الخطاب الإعلامي. والخطاب discourse كما عرفناه في هذا العمود يشير إلى ممارسة اجتماعية نستشفها ونستقيها ونصل إليها من خلال تحليلنا لكل رمز نستخدمه للتواصل ونقل المعلومة والمعرفة وتأتي اللغة في مقدمة تلك الرموز.
وأشهر مدرسة فلسفية التي يدعي الإعلام الغربي لا بل الإعلام بصورة عامة انتماءه إليها تعنى بالموضوعية والنزاهة. بمعنى آخر لا مكان للميول مهما كانت في نقل المعلومة والمعرفة. شعار هذه المدرسة هو: "قلها كما هي".
ولكن هل باستطاعتنا نقل الأحداث والمعرفة والمعلومة التي تتصل بها كما هي؟
الجواب لدى كثير من المفكرين والفلاسفة أنه من الصعوبة بمكان – إن لم يكن الأمر مستحيلا – نقل المعلومة كما هي. الإنسان، حسب هذه المدرسة، يصعب عليه التخلص من ميوله.
واستنادا إلى هذا الموقف الفكري ظهرت مدرسة ثانية تعنى بتحليل الخطاب الإعلامي، شعارها: "أنت تنقل الحدث كما تراه وليس كما هو".
هذه المدرسة تقول ميولنا متأصلة فينا. وبما أننا نناصر ميولنا فكريا وذهنيا وعضليا ولغويا، فلابد لها أن تظهر في خطابنا. وتذهب هذه المدرسة بعيدا إلى درجة تأكيد أن كل محاولاتنا للتخلص من الميول من خلال انتقاء الأطر الخطابية التي نراها محايدة ونزيهة قد تذهب سدى.
الميول، تقول هذه المدرسة، تكون في الغالب مطمورة ومستترة في السياق الذي يرد فيه خطابنا وطريقة تقديمنا وتأخيرنا للمشاركين في الحدث وأقوالهم وأعمالهم ومن ثم الطريقة التي نقتبس بها منهم أو نعيد صياغة ما ننقله عنهم.
هذه المدرسة هزت عرش الإعلام والأكاديمية الإعلامية في أمريكا التي كانت تتبنى أطرا محددة تسوق لها الجامعات من خلال الأبحاث والتدريس ما مفاده أنه بإمكاننا نقل الحدث كما هو وليس كما تقتضي ميولنا.
وكأن هذا لم يكن كافيا لإماطة اللثام عن أن تحقيق النزاهة والموضوعية في الخطاب الإعلامي، حسب ادعاء المدرسة الأولى، أمر بعيد المنال، حتى ظهرت لنا المدرسة الثالثة التي غيرت مسار البحث العلمي في الإعلام ومن ثم نظرة الإعلاميين والصحافيين إلى مهنتهم وممارستهم لها.
المدرسة الثالثة أظهرت أن الخطاب الإعلامي، إضافة إلى كونه حمالا لميول ممارسيه، قد يصبح في كثير من الأحيان مطية تنقل الإرادة والقناعة السائدة لدى مموليه وأصحاب السلطة المؤسساتية التي يقبع تحت مظلتها.
وأدخلت هذه المدرسة مفهوما فلسفيا جديدا في الدراسات الخطابية التي تعنى بشؤون الإعلام والصحافة. هذا المفهوم يستند إلى فرضية جرى تجريبها والتحقق منها في دراسات أكاديمية رصينة، مفادها أن الصحافي والإعلامي أو الوسيلة الإعلامية تنقل الحدث كما يطلب منها ممولوها وأصحاب نعمتها.
وظهرت دراسات تظهر كيف أن الإعلام يصبح حمالا للأطر الخطابية السائدة لدى الأفراد أو المؤسسات التي تموله أو يعمل ضمن نطاقها وتأثيرها.
أمام المفاهيم الفكرية والفلسفية هذه، ولا سيما ما أتت به المدرستان الثانية والثالثة، بدأ الإعلام في أمريكا والدول الغربية بمراجعة أطره الخطابية. بعض الوسائل الإعلامية الرصينة وذات التأثير على مستوى العالم استعانت بالجامعات وأساتذتها ومراكزها البحثية للتخفيف من أثر الميول وتأثير ممولي الإعلام والمؤسسات السلطوية في نقلها للأحداث والمعلومات بعد أن صار يقينا لديها أن مفهوم: " قلها كما هي " صعب المنال.
وأكثر النصائح نجاعة تدعو إلى أن يكون النقل بمجمله تقريبا اقتباسات (حرفية أو تعبيرية) وبصورة متوازنة وحيادية من الأشخاص ضمن الحدث والمتأثرين به.
وظهر مسار في الدراسات الأكاديمية التي تعنى بشؤون الإعلام يدعو الأكاديميين إلى التوجه قدر المستطاع صوب الطرائق التي يمارس فيها الإعلام لتنوير ممارسي المهنة والكف عن التنظير. وبدلا من تكديس النقد للصحافة والإعلام والعاملين في هذا الحقل ومؤسساته، يجعل هذا الاتجاه تقديم الأطر الخطابية التي يراها الباحثون أكثر قربا للنزاهة والموضوعية جزءا من البحث العلمي.
ما أخشاه هو أن الإعلام العربي لا يزال يدور في حلقة المدرستين الأولى والثانية وأن همه الإقناع من خلال التشبث بالميول والإرادة والقناعة السائدة لدى أصحابه ومموليه ومالكيه.
وأرى أن هناك خللا كبيرا في مفهوم الاقتباس في الخطاب الإعلامي العربي رغم أن العرب مشهود لهم إبداعهم في الإسناد ضمن سياق تاريخهم ولا سيما في الدراسات المتعلقة بالحديث النبوي الشريف.
وأكثر ما أخشاه هو الأثر البالغ على المتلقين. الإعلام سيف بتار وعندما يصبح وسيلة لحمل القناعات والميول لدى أصحاب نعمته، تزداد خطورته على الأجيال التي ستبقى حبيسة هذه الميول والقناعات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي