بناء التعاون دون أزمات «2 من 2»

بناء التعاون دون أزمات «2 من 2»

ظهور التكنولوجيات الجديدة المثيرة للارتباك، بما في ذلك التقدم في مجال المعلومات، ودفاتر الحسابات الرقمية الموزعة، وتقنيات البيانات الضخمة، إضافة إلى الذكاء الاصطناعي. تفتح هذه التطورات كثيرا من الآفاق الواعدة، هذا بعد آخر يزيد من تعقيد المشهد، ولكنها تثير تساؤلات حول مدى ربحية واستمرارية المؤسسات والشركات القائمة، وقد تتسبب في إضعاف فعالية النظم القانونية والتنظيمية القائمة.
ولأن هذه الاتجاهات تحيط المستقبل بأجواء من عدم اليقين، فقد تؤدي أيضا إلى إضعاف الطلب من خلال تشجيع المدخرات الوقائية ودفع المستثمرين القلقين إلى البقاء في مقعد المراقب.
فكيف يمكن أن تخطط للتقاعد في هذه الأجواء المحاطة بعدم اليقين، خاصة حين تظل أسعار الفائدة قريبة من الصفر؟ كيف يمكن الاستثمار في مستقبل أوروبا في وقت "الخروج"؟ كيف يمكن الاستثمار في الشرق الأوسط حيث تتفكك الدول، وتتحول التحالفات، وتظهر أطراف فاعلة من غير الدول؟ كيف يمكن الاستعداد للاضطرابات داخل كل بلد مع استمرار إحلال الماكينات محل العاملين، أو تمكن الجماعات غير المنتمية إلى دول من تحدي قدرة الدولة على الحكم الفعال، عن طريق استغلال تكنولوجيا المعلومات؟

"ماذا نحن فاعلون"؟
وتكرارا لسؤال شاع في مطلع القرن الماضي، عندما كثرت الشكوك في صلاحية النظام العالمي، نتساءل مرة أخرى: ماذا نحن فاعلون؟
المفارقة في المأزق الحالي – كما قلنا في البداية – هي أن بإمكاننا تحقيق إنجازات أكبر من أي وقت مضى بالترابط والتعاون. فإذا كانت الاقتصادات المتقدمة تواجه تحديات أصعب مع نضجها وتباطؤ نمو إنتاجيتها، فمن غير المحتمل أن يكون بمقدورها الاستغناء عن مكاسب التجارة. وبالمثل، سيظل عالم الأسواق الصاعدة يعتمد على التجارة ورأس المال والتكنولوجيا التي تشكل مقوما أساسيا في الترابط العالمي حتى تحافظ على نموها المرتفع وصولا إلى معدلات نمو أسرع وتقارب مأمول في مستويات المعيشة.
ومن الضروري حماية مكاسب العولمة بالتكتل معا بغية تنشيط النمو. ولا تزال مجموعة العشرين للاقتصادات المتقدمة والصاعدة تسهم بدور حيوي في هذا السياق، وينبغي لبلدانها الأعضاء أن تبادر بتنفيذ وتعجيل مبادرة النمو التي أطلقتها المجموعة في قمة هانجزو لهذا العام، بحيث تستفيد من كل روافع السياسات – النقدية والمالية والهيكلية – لتحسين أوضاع الاقتصاد العالمي. ويوضح التحليل الذي أجراه الصندوق أخيرا أنه لا تزال هناك أوجه تضافر هائلة ينطوي عليها العمل الشامل والمنسق والتعاوني. فبالعمل معا، من الممكن والمجدي أن نحقق ما هو أكثر بكثير.
ولكن في سياق هذه الجهود، علينا أن نعزز الطابع الاحتوائي لاقتصاداتنا العالمية والوطنية بما يحد من انعدام الأمن الاقتصادي وتصاعد عدم المساواة اللذين صاحبا العولمة. ففي المجتمع الرأسمالي، غالبا ما يسفر التغيير عن أطراف فائزة وأخرى خاسرة. ونحن ندرك أيضا أن "الهدم البناء" على المستوى الجغرافي - السياسي يزيد البلبلة التي يثيرها التشريد الاقتصادي.
ولذلك، يجب أن تكون جهودنا المبذولة لرفع النمو مصحوبة بسياسات تدعم الفقراء والمشردين أو المتأثرين سلبا بالتغيير. وعلى بلداننا أن تكون أكثر انفتاحا لسياسات إعادة التوزيع، وهو ما يتطلب تركيزا خاصا على تزويد العمال المسرحين – في كل من الصناعات والخدمات – بالمهارات التي تمكنهم من المنافسة في اقتصاد القرن الـ 21. ذلك أن الرسائل الشعبوية تفقد إلحاحها وجاذبيتها كلما استطاعت الحكومات تحقيق تطلعات مواطنيها لرفع مستويات المعيشة وتعزيز الأمن الشخصي. والرخاء بدوره يدعم الأمن والتعاون على المستوى الجغرافي - السياسي.
وثمة حديث خيالي يتردد كثيرا هذه الأيام حول بناء الأسوار. ولكن السور الوقائي الذي نحتاج إليه على أرض الواقع هو تعزيز المصدات الواقية من الأزمات المستقبلية، وهو جهد يتطلب تنسيقا أفضل للحد من تداعيات مواطن الضعف الاقتصادي، كما يتطلب قواعد تنظيمية مالية أقوى لحماية الأسواق المصرفية والرأسمالية من الانتهاكات، وتعاونا وتنسيقا في المجال الضريبي للحد من تآكل الإيرادات الوطنية نتيجة لنقل أرباح الشركات عبر الحدود.
وتدعو هذه الجهود إلى زيادة اعتناق مبدأ التعددية القطبية في عالمنا المعاصر. ومن هنا نحتاج إلى حماية المؤسسات الرئيسة متعددة الأطراف، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة الأمم المتحدة، وإصلاحها متى دعت الضرورة. فاستمرار تأثير هذه المؤسسات يعتمد على السماح بتطور الحوكمة حتى تعكس واقع القوة العالمية المتغير. وينطوي المنهج نفسه على تدعيم وإدماج المؤسسات والمبادرات الجديدة التي تدعمها الأسواق الصاعدة. ويدعو هذا المنهج أيضا إلى تعزيز الترتيبات المالية الإقليمية القائمة، مثل مبادرة شيانج ماي، بمزيد من التعاون والتنسيق.
وأخيرا، لقد حان الوقت لإزالة الفجوة القديمة بين الاقتصاد والأمن في صنع السياسات الوطنية والدولية. فالاثنان لا ينفصلان في عالم معولم تتردد في جنباته أصداء النزاعات على الأراضي والتقلبات في الأسواق فتثور الاضطرابات في كل مكان بغض النظر عن مفاهيمنا التي تنتمي للقرن الـ 20. إضافة إلى ذلك، لا سبيل إلى تجاوز مخاطر الدول الفاشلة، والأطراف الفاعلة من غير الدول، والصراعات الإقليمية، إلا من خلال منهج متكامل ، منهج يدرك أن للتهديدات الأمنية تداعيات اقتصادية، وأن عدم الاستقرار الاقتصادي يولد تهديدات أمنية.
ولكيلا نكرر أخطاءنا السابقة ونستسلم للتمزق الاقتصادي والسياسي، حان الوقت لإقامة حوار جاد والتحلي بروح التعاون من جديد.

الأكثر قراءة