اختبار حقيقي للتعاون
لا يبدأ الحديث عن التحديات الاقتصادية والتنموية إلا ويذكر دور التعليم والحاجة إلى تطويره، بعد ذلك تدخل في معمعة لا تستطيع الخروج منها سالما. تبدأ بكل شيء وتتحدث عن كل شيء ولكنها لا تظهر بسياسة محددة، والأهم لا أحد يريد مواجهة الواقع أو يريد الربط الوثيق بين الاقتصاد وسوق العمل، والمسؤوليات العامة من ناحية ومسؤولية العائلة والفرد من ناحية أخرى. هذا التشابك يعبرعن عدم وضوح في سياسة التوظيف والاستقدام وهيكل الحوافز في المجتمع والفقر الفني في المجتمع وحتى المرونة في تنويع القاعدة الاقتصادية. عدم الوضوح يجعل سياسة التعليم تدور في فلك قريب مغلق لا تستطيع أن تنفذ إلى العالم الاقتصادي أو الثقافي الأوسع. دخلنا في دائرة غير خيرة اقتصاديا وتعليميا. هناك أكثر من طريقة لكسر هذه الدائرة ولكن عمود اليوم يحاول كسر الدائرة من حلقاتها التعليمية ولعله في نظري من أهم الاختبارات لمعرفة مدى قوة الزخم والتوجهات المجتمعية للتغيير الحقيقي اقتصاديا وتعليميا.
«الرؤية» وبرامج التحول الوطني ترسم وتطالب بتغيرات مهمة في الوسط الاقتصادي وتركز على القطاعات. أحد هذه القطاعات التعليم والعمل والتوظيف والتوطين ولكن تحليليا وعمليا لا يمكن الحديث عن القطاعات بطريقة عمودية وكأنها لا تؤثر في حراك القطاعات الأخرى، ناهيك عن الأداء التنموي والاقتصادي. في نظري تفكيك العلاقة يتطلب إعادة النظر في الهرم التعليمي وربط أجزائه بطريقة جديدة مختلفة نوعيا عن الماضي أو عن تجارب دول المنطقة التي لم تقدم كثيرا على الرغم من طول تاريخ التجربة التعليمية لديهم. أتقدم باقتراح برفع متطلبات قبول الجامعات ليصل عدد المقبولين إلى 40-45 من خريجي الثانوية العامة، وتقليص الدعم الحكومي للجامعات الخاصة وخاصة للتخصصات المهنية مثل الطب والهندسة وطب الأسنان لأن من ينخرط فيها إما ضعيف التأهيل أو من غير المواطنين. البقية تذهب للتعليم التخصصي خاصة الفني أو التوظيف المباشر (الذي ستتغير النظرة إليه في حال ترسيخ مفهوم الدراسة والعمل الفني). أيضا تمتد المطالبة بالفرز في التأهيل والكفاءة للبعثات، فلابد للبعثات أن تغير التوزيع، اليوم أغلب الطلاب والطالبات يذهبون لدراسة علوم إدارية واجتماعية، الأحرى أن يذهب الأغلبية لدراسة العلوم والهندسة. لا يمكن أن يكون الخيار الاقتصادي وتحديات الطاقة تتطلب العلوم والهندسة بينما أغلب البعثات لدراسة التعليم والقانون والإدارة والتسويق والاقتصاد. هذه فقط المرحلة الأولى من تفكيك هذا الإرث التعليمي الاقتصادي الاجتماعي. المراحل اللاحقة تدخل في دقة التخصصات واختيار الجامعات والأقسام. ما كان مناسبا للعقود الماضية أصبح ترفا مكلفا اليوم في المرحلة الخطأ وتعبيرا عن عدم الرغبة في الاختبار ناهيك عن النجاح من عدمه. النجاح الحقيقي يتمثل في نوعية وحجم المشاركة في سوق العمل وتصاعد الإنتاجية. أحد إفرازات الحالة اليوم أن الجامعات مكان لانتظار توافر وظيفة حكومية لخريج في الغالب غير مؤهل قياسا على حجم التحدي الاقتصادي ومقارنة بالدول المتوسطة التقدم. الاختبار الحقيقي سيتطلب تغييرا في سياسة التعليم وإعادة النظر في الأولويات المجتمعية (على مستوى الحكومة والناس - مراجعة ثقافية). رفع كفاءة الطالب الجامعي يحفز المنافسة وحتى تمكين الجامعات من التعمق الرأسي تخصيصا وبحثيا.
التلاحم والتشابك البشري والتعليمي والاقتصادي واضح ولذلك سرعان ما يصبح النقاش عن التعليم "بيزنطيا" لا تعرف بدايته من نهايته. كثيرا ما نتحدث عن منظومة الحوافز المجتمعية ولعل هذا قلبها وقليلا ما نسعى لتعريفها بدقة. التغيير المطلوب تعبير عن المسألة العائلية والشخصية والعامة. يقول أينشتاين إن تعريف الجنون أن تستمر في الممارسات نفسها وتتوقع نتيجة مختلفة. النهج التعليمي لدينا لا يتماشى مع تطلعات "الرؤية" أو طموح الحكومة والمواطن.