الشعبوية الاقتصادية
أثناء نقاش مع أحد الأصدقاء ذكر في نقد مبطن أن تلك الفكرة (الفكرة كانت حول المطالبة بدعم المواطن ماليا لأن دخل النفط مازال بمستوى 2005) نتاج الشعبوية الاقتصادية، أعجبني التعبير ورأيت أنه عنوان مناسب لعمود. في السنوات الأخيرة ازداد الوعي الاقتصادي لأسباب كثيرة منها شبكات التواصل الاجتماعي (سكين ذات حدين)، والأزمات الاقتصادية المتعاقبة إقليميا وعالميا، وتزايد الحساسية وطنيا بعد انخفاض أسعار النفط، والنقاش العام حول الدعم والرسوم على الأراضي، وربما جزء من طبيعة التقدم المجتمعي. الوجه الآخر للوعي هو استعداد الكثير لدخول معمعة النقاش الاقتصادي دون بذل مجهود معرفي أو معلوماتي. ذكر أستاذ متخصص أن مجال الاقتصاد أصبح مستباحا بعد ما استبيح علم السياسة عند العرب منذ عقود. الاقتصاد بطبعه يعنى بحياة الكل المادية وبالتالي يصبح وسطا خصبا للبعض للتذمر أحيانا أو التشكي أحيانا أخرى، وهذا كله متوقع وحتى مقبول في حدود ولكن ما هو ليس مقبولا هو تقديم وجهات نظر شعبوية وكأنها أفكار اقتصادية، أو تقديم رأي وكأنه اقتراح لسياسة عامة، أو عدم التفريق بين الفكرة والرأي الشخصي. أحد مصادر الإشكالية أن للسياسة دورا في إدارة الاقتصاد وبالتالي أحيانا لا تعرف هل المقصود وجهة نظر اجتماعية سياسية أو تعليق اقتصادي خاصة أن بعض قضايا الشأن المالي أقرب إلى القلب منها للذهن، وبالتالي يحدث تغييب للتحليل المنطقي وغياب المساءلة الشخصية.
تأخذ الشعبوية الاقتصادية أشكالا وأنماطا مختلفة ولكنه أغلبها يدور حول مطالبة الحكومة بعمل كل شيء، والمقارنات السطحية بدول أخرى سواء في الدعم أو التقدم بغض النظر عن الظروف الموضوعية لكل بلد وكل حالة وتأصيل القياس وفهم التيارات المعقدة. يزيد الوضع تعقيدا أن علم الاقتصاد لا يساعد، فهناك دور للجميع ولكنه غير متجانس في الغالب بسبب غياب مركزية القرار الاقتصادي لمدة طويلة، وليس القصد هنا فقط الهياكل الإدارية ولكن مركزية الاهتمام والتفكير. سمعت مقابلة حديثة لجاك ما مؤسس شركة "علي بابا" الصينية يقول إن "عُلماء" الاقتصاد الجدد هم رجال الأعمال حين يأتون بإبداعات وإسهامات مستقلة بعيدة عن الاعتماد على الحكومة (يتحدث عن حالة الصين استشرافيا في المرحلة القادمة القريبة) وليس الاقتصاديين أو غيرهم. ولكن تقدم الصين المؤثر منذ نهاية السبعينيات (إصلاحات دنج شاوبنج) لم يبدأ برجال الأعمال الذين لم يكونوا موجودين أصلا. إنها المرحلة والقراءة الصحيحة لسلم القيمة المضافة جماعيا.
سلم القيمة المضافة وتوحيد الجهود قوى ليس للشعبوية الاقتصادية مكان لها. بل لعل الشعبوية الاقتصادية لا تريد أن تعرف أن انتقال الصين صاحبه ولايزال عدم عدالة حتى ظلم للبعض وضغط على فئات كثيرة، وتوتر بين الريف والمدن، وفساد يعرفه كل من يتعامل مع الصينيين ومشكلات بيئية وحجم ديون غير متوازن. بعد أن زاد متوسط حصة الصيني من الدخل القومي 40 ضعفا لا تزال الصين متوسطة الدخل عالميا ومع زيادة ملحوظة في سوء توزيع الدخل، ولكن حين تسأل الشعبوي الاقتصادي ستجده يصف حالة وردية لتكلفة التقدم في الصين أو كوريا. الشعبوي الاقتصادي لا يريد أن يتساءل بعمق عن رغبة الصيني والكوري في التعليم ويكتفي بالتشبث بشهادة مزخرفة دون مضمون علمي للاقتصاد أو غيره، وتجده منظرا عن تجربة الصين دون قراءة حتى عدة مقالات جادة عن الموضوع.
لا أعرف مصادر تلك الشعبوية.. قد تكون حداثة التجربة الاقتصادية، وقد تكون حالة الرفاهية التي وصل إليها كثير ليس من النخبة فقط و لكن طبقة ليست صغيرة في فترة وجيزة. فهذه قد تولد شعورا كاذبا بالمعرفة والمقارنات السطحية وقد تسهم هموم المنطقة والكم المعلوماتي غير المقنن في وسط غالبه لم يتعود على القراءة العميقة. أحد مصادر الفوضى الفكرية ينبع من الإصرار على توظيف منظار أيديولوجي لشرح أو تقديم حلول لمسائل عملية وتجارية. لا أعرف ولا أستطيع الوصول إلى محددات، لعل المختصين في علمي الاجتماع والنفس يدرسون الحالة. ما يهم في نظري أن الشعبوية الاقتصادية تضر على أكثر من صعيد. تأطير النهج الثقافي يساعد الجميع ويقلل التكلفة المجتمعية. الخطوة الأولى تأتي في محاربة الشعبوية الاقتصادية، ونشر الوعي الاقتصادي، والابتعاد عن الشائعات ودغدغة المشاعر، والصبر، وترك الأمور لمن لديه الاستعداد للعمل المضني.