مكافحة الأمية الاقتصادية
ليس هناك تعريف علمي واضح، للثقافة الاقتصادية الخاصة بالعامة. فهذا الجانب من الحياة ظل للباحثين والدارسين المختصين والخبراء، إلى جانب أولئك - بالطبع - الذين يشاركون في تحريك السوق كل في موقعه. ورغم أن العامة هي الجهة الأكثر تحريكا للسوق، إلا أنها لا تزال دون المستوى "الثقافي في الاقتصاد"، وإن تفاوت الأمر بين بلد وآخر ومجتمع وآخر. والتوصيف الأمثل لهؤلاء ليس أكثر من أنهم على معرفة بثقافة المستهلك، ولكنهم ليسوا بالضرورة على معرفة بالثقافة الاقتصادية ككل. بمعنى آخر، يتمتع هؤلاء في البلدان الراشدة بمعرفة استهلاكية عالية المستوى، ولكن لا يعني هذا أنهم يتمتعون بثقافة مصرفية تخصهم مباشرة، على الرغم من أن المصارف توفر لهم "سلعا" مالية مختلفة، مثل القروض الشخصية والعقارية وصناديق الادخار وغير ذلك.
وللوصول إلى ما يمكن وصفه بـمكافحة الأمية الاقتصادية، لا بد من أن يكون البدء بمكافحة الأمية الاستهلاكية، خصوصا أن الضحية هنا في غالبية الأحيان يكون المستهلك نفسه، وهو (مرة أخرى) المحرك الوحيد للسوق. في البلدان الراشدة، ارتفعت الثقافة الاستهلاكية إلى مستويات جيدة على مدى عقود، والسبب في ذلك، التشريعات الحكومية الخاصة بحماية المستهلك التي بدأت بسيطة وأصبحت غليظة. وانتشار جمعيات المجتمع المدني المختلفة، حيث أصبح لكل منتج جمعية مدنية عامة. إضافة طبعا إلى المنافسة المفتوحة بين المنتجين للوصول إلى السوق وبالتالي إلى المستهلك، يضاف إلى ذلك أيضا، أن هناك آلية إعلامية قوية تدعم المستهلك ضد السوق وليس العكس، ما يجعل المنتج أكثر شفافية وصدقا.
بالطبع احتاج الأمر لعقود للوصول إلى هذا المستوى الاستهلاكي الواعي. فضلا عن أن المستهلك في هذه البلدان مر أيضا بمراحل جهل على صعيد الاستهلاك السلعي والمالي أيضا. ومع سلسلة من المطبات والأزمات إضافة إلى الجهات المشار إليها، ارتفع مستوى هذا النوع من الثقافة. فعلى سبيل المثال، هناك مطبوعات ونشرات ومواقع إلكترونية تنشر الفوارق الدقيقة بين منتج واحد لعشرات الشركات. وتقدم هذه الفوارق بأقل معدل من التعقيد للمستهلك. وكذلك الأمر بالنسبة للأمور المالية والمصرفية، هناك جهات لا تحصى تقدم الفروقات بين هذا المنتج المالي وذاك، ومدى ملاءمة الميزانية الخاصة للفرد مع كل منتج.
في العالم العربي الأمر بالتأكيد ليس كذلك، لأن جمعيات المجتمع المدني لا نشاط لها - إن وجدت أصلا - وقد أخذت الحكومات على عاتقها مسألة حماية المستهلك ونشر الثقافة الاقتصادية. وهنا الخطأ الأكبر في هذه القضية. لأنه حتى الحكومة نفسها بكل آلياتها وأدواتها ومؤسساتها تحتاج إلى توصيات من المجتمع المدني من أجل اتخاذ القرارات المناسبة. صحيح أن وزارات الاقتصاد والتجارة تقوم بمهام جيدة في مراقبة السلع وتتخذ إجراءات قانونية صارمة ضد المنتج، لكنها في الواقع لا توفر ثقافة استهلاكية أو اقتصادية ذات معنى بمثل هذه القرارات، لأن ما تقوم به هو عقاب الجهات المخالفة فقط. أمر التوعية والتوجيه لا يمكن أن يصلا إلى الجهات المستهدفة إلا عن طريق جمعيات المجتمع المدني، وتفعيل دور الإعلام بصورة عملية لا نظرية. فإذا نظرت الآن إلى الإعلام الاقتصادي العربي، ستجد كل أدواته موجهة للمختصين والعاملين في الحقل الاقتصادي، وقلما تجد شيئا يخص المستهلك، الذي هو - مرة ثالثة - المحرك الأول والأكبر للسوق.
إنها مسألة ينبغي أن تشترك فيها كل الجهات، على ألا تتداخل الاختصاصات. وهذا الأمر لا يزال يحتاج إلى وقت طويل في العالم العربي.