رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الماضي يقتحم الحاضر في الشرق الأوسط

نظرة خاطفة إلى الخطاب العربي، والإعلامي منه على وجه الخصوص، تقحمنا في الماضي السحيق.
الماضي له دوره. نتكئ على الماضي في أحيان كثيرة لسبر كنه الحاضر. بمعنى آخر، الماضي قد يساعدنا على فهم بعض جوانب حاضرنا.
ولكن أن يكون الحاضر أسير الماضي، هذا أمر لعمري خطير يجب دراسته من جوانبه كافة.
وأكاد أجزم أن التمدن واكتساب ناصية العلم والمعرفة والنهضة الحديثة تستند كثيرا إلى الموقف من الماضي. وإن أردنا أن نحدد العلاقة بين الماضي والحاضر، بإمكاننا تأطيره ضمن الفرضيات التالية:
ــــ كلما زادت وطأة الماضي على الشعوب، بعدت عن التمدن والحضارة والازدهار. كلما خفت سطوة الماضي على الشعوب، أمسكت بناصية الحضارة والتمدن.
ــــ كلما زادت وطأة الماضي، تقوى عود المؤسسات الدينية والمذهبية. كلما خفت سطوة الماضي، اضمحل دور المؤسسات الدينية والمذهبية.
وما هو الماضي، يا ترى؟
الماضي الذي أعنيه يتعلق بالخطاب ويشمل الأفكار والأيديولوجيات والثقافات التي كانت سائدة في الماضي واكتنزتها لنا اللغة وحفظتها في وعائها الذي يقاوم الزمن.
والخطاب هو كل فكرة نعبر عنها من خلال مرادفات وعبارات وجمل وسياقات لغوية محددة. والسياقات الخطابية السائدة في الماضي إن جرى اجترارها تحتل الفكر والتوجه والواقع الاجتماعي في الحاضر وتسيّره كما كانت تسير المجتمع في زمانه ومكانه.
في أوروبا مثلا كان للماضي الدور الرئيس في العلاقة مع الحاضر إلى عهد قريب، أي نحو القرن الـ 19. الدارس لتاريخ أوروبا لا بد أن يمضي وقتا طويلا وهو يحاول استيعاب المعارك الطاحنة والمذابح المروعة بين الكاثوليك والبروتستانت التي يطلق عليها الهيجونوت Huguenot التي لم تر البشرية مثل بشاعتها إلى فترة النازية.
الدماء التي سالت مثل الأنهار ــــ وهي دماء الأبرياء من الناس ــــ كان محركها التشبث الأعمى بالسياقات الخطابية التي كانت دارجة في الزمن الماضي لدى كل طرف.
والدماء هذه تتحمل مسؤوليتها المباشرة المؤسسات الدينية والمذهبية في حينها لأنها رفضت التنازل ولو لفظيا عن مواقفها الطائفية والمذهبية.
ما جرى للبروتستانت على يدي الكاثوليك في حينه في فرنسا فقط وصمة عار في جبين الغرب الذي بقي متخلفا إلى الحين الذي استطاع فيه حصر المؤسسة الدينية والمذهبية في زاوية ضيقة لا تسمح لرجعيتها (تشبثها بالماضي) السيطرة على مقدرات الحاضر.
وتعلم الغرب درسا ربما لن ينساه أبدا. أسس هذا الدرس تكمن في الفرضيات التي ذكرناها أعلاه.
وسنّ الغرب قوانين لا تحجر على المؤسسة الدينية وحسب بل تفرض عقوبات على كل من يجتر السياقات الخطابية الماضية للتأثير في الحاضر.
وهنا أتحدث عن قوانين وسياسات الغرب الداخلية وليس سياسته الخارجية. في داخل بلدانه، يحارب الغرب الماضي بطائفيته ومذهبيته وعنصريته ومعها المواقف ووجهات النظر التي تفضل ميلا على آخر أو تنتقص من ميول الآخرين.
اليوم يتسامى الخطاب الغربي لا سيما الإعلامي منه على ذكر الميول مهما كانت دينية أم مذهبية أم جنسية أم عرقية. لا يكترث الناس للخلاقات في الميول أبدا. النظرة إلى الإنسان تنبع من كونه بشرا وليس أنه صاحب هذا الميل أو ذاك حتى وإن تعارضت الميول أو انتهكت ما تراه المؤسسة الدينية أو المذهبية قيما لا يمكن المساومة عليها.
بيد أن هناك شيئا من النفاق في هذه السياسة لأن الغربي لا يطبقها في سياقاته الخطابية عند تعلق الأمر بالآخر وعلى الخصوص المجتمعات العربية والإسلامية.
الغرب يشدد على الخلافات المذهبية والطائفية والميول المختلفة لدى العرب والمسلمين مثلا. أظن أن المواطنين في الدول العربية التي تمر بأزمات كارثية اليوم يحسون كيف أن الفروقات هذه صارت هي الطاغية.
وصارت أمصار العرب والمسلمين بمثابة أرض خصبة لازدهار ما يشبه الهيجونوت Huguenot الذي ضرب فرنسا في نهاية القرن الـ 17 وكاد يحولها إلى دولة فاشلة.
قد يكون للماضي لدى العرب والمسلمين مكانة تختلف، ولكن مهما كان الأمر لا يجوز أن يصبح الماضي معرقلا للحاضر.
ولا يجوز أن تصبح للسياقات الخطابية في الماضي الدور الرئيس في تحديد المواقف من الميول في الحاضر.
وأكثر من هذا وذاك لا يجوز أن تمتع المؤسسات الدينية والمذهبية بكل هذه السطوة والسيطرة على انتقاء السياقات الخطابية وفرضها من خلال الإعلام.
الأزمات والحروب والمذابح المروعة التي سببتها المؤسسات الدينية والمذهبية في أوروبا استمرت عدة قرون وبالكاد استطاع الغرب التخلص من تبعاتها.
وأخشى أن يقع العرب والمسلمون في أتون الهيجونوت Huguenot الذي قد يحرق أخضرهم ويابسهم قبل التمكن من إطفاء نيرانه الملتهبة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي