كيف أصبحنا سجناء وسجانين في آن واحد؟
قد لا يتمكن أي باحث من تفسير أو تحليل ظاهرة إعلامية أو خطابية دون اللجوء إلى الفيلسوف الفرنسي الكبير ميشيل فوكو.
وشخصيا لم أكتب بحثا أو كتابا إلا وكان لـ "فوكو" نصيب فيه. وكذلك لم ألق محاضرة إن في العربية أو الإنجليزية إلا وذكرت نظريات "فوكو" عن السلطة التأديبية Disciplinary Power .
وفي كل كتاباتي ومحاضراتي كنت آتي بأمثلة كثيرة من واقعنا الاجتماعي. وكثير من هذه الأمثلة يذكرها "فوكو" ذاته ومنها مثلا كيف أننا نشعر ونتصرف وكأنّ هناك سلطة تراقبنا أو حراسا يقفون وراء ظهورنا وأمامنا رغم عدم رؤيتنا لهم أو الإحساس بوجودهم؟
الحراس موجودون. فمثلا هناك حراس في السجن. بيد أن السجناء في السجن، إن كان السجان واقفا أمامهم أو غائبا أو غارقا في نوم عميق، يتصرفون كلهم وكأنه يحدق فيهم وبندقيته أو عصاه أو سوطه في يده.
وأطلق "فوكو" على هذا الواقع الاجتماعي مصطلح Panopticism ويشير إلى الواقع الاجتماعي الناتج عن التطور التكنولوجي الذي لم يعد السجناء فقط يتصرفون وكأن الحارس رغم اختفائه يقف أمامهم وخلفهم بل إن المجتمع برمته أخذ يتصرف وكأنه مراقب مراقبة شديدة.
المؤسسات (دينية أو مدنية أو عسكرية أو غيرها) التي نعمل فيها تفرض علينا مراقبة شديدة رغم أننا لا نستشعر بوجودها لأنها صارت جزءا من حياتنا. هذه المؤسسات لا تختلف حسب "فوكو" عن السجن وحراسه.
في كثير من المؤسسات (والمؤسسة قد تكون صغيرة وقد تكون كبيرة يصل حجمها إلى نظام ودولة) قد يتصرف المرء دون وعي منه وكأنه مراقب من قبل حراس افتراضيين إلى درجة تقنين وتحديد لغة جسده وكلماته وألفاظه ولباسه وحركته وغيره.
وفكرة السجن Panopticon يقتبسها "فوكو" من الفيلسوف الإنجليزي جيرمي بنثام ويطورها كي تصبح نظرية مهمة لعبت دورا بارزا في إماطة اللثام عن كنه واقعنا الاجتماعي ولا سيما بعد الثورة الصناعية.
في الـ Panopticon نحن المنتمين إلى المؤسسة نرى بعضنا بعضا وكل ما نفعله أو نتفوه به منظور وجلي رغم أن السلطة وحراسها مستترون في الأغلب ولا ظهور لهم: مخفيون، سريون، مبطنون. رغم ذلك نخشاهم ونتصرف حسب مشيئتهم.
و"فوكو" هو فيلسوف تحليل الخطاب ونقده دون منازع. هو الذي استخدم اللغة كمادة تحليل لتعرية المؤسسة والسلطة. الخطاب بالنسبة لـ "فوكو" يشكل ويعكس الواقع الاجتماعي والواقع الاجتماعي نسبر أغواره من خلال اللغة والخطاب.
وكتاباته ونظرياته كانت وراء ظهور ونمو وتطور حقول معرفية حديثة في العلوم الاجتماعية ومنها التحليل النقدي للخطاب واللغة وأغلب الدراسات التي تستند إلى اللغة كوظيفة اجتماعية.
وفي كتبي وأبحاثي نماذج كثيرة أستقيها من الخطاب الإعلامي كي أبرهن على أننا سجناء اللفظة والمفردة والعبارة والجملة أو الممارسة الخطابية التي تكوننا أي تعكس من نحن وكيف أنها تحتلنا إلى درجة اللجوء إلى العنف الخطابي أو الجسدي لمعاقبة المنتقص منها.
وربما كانت لي إضافة متواضعة إلى نظرية Panopticism وهي أن الفرق بين السجان والسجين بدأ يضمحل في عصر التكنولوجيا الرقمية وذلك لأننا نمارس سلطة السجان ونرضى بخنوع واسترقاق السجين في آن واحد.
لقد دجنتنا وروضتنا الممارسات الخطابية التي تفرضها علينا المؤسسات التي ننتمي إليها ومن ثم حولتنا إلى حراس لفرضها وتطبيقها ومعاقبة الذي ينتهك قوانينها.
وكم هالني عندما اكتشفت أنني شخصيا أصبحت سجانا وسجينا في آن واحد.
كنت في مطار بروكسل في الأسبوع قبل عيد الأضحى. وكان علي أن أنتظر الطائرة التي ستقلني إلى لندن لحضور مؤتمر علمي نحو أربع ساعات.
وكان الوقت صباحا. وفي الصباح تبدأ فترة قراءتي للصحافة العربية. بعد شرائي فنجان قهوة لا إراديا انزويت كي لا يرى أو حتى يلحظ أي شخص شاشة الكمبيوتر وأنا أنتقل من موقع عربي إلى آخر.
لماذا الخشية والانزواء عند مطالعة الصحافة العربية في مطار بروكسل؟ السبب واضح. لقد أجبرني الواقع على تصور أن هناك حراسا قد يشتبهون أو يتصورون أنني أقوم بعمل ضار وأنا أقرأ العربية.
استخدام الحروف العربية أو النطق بالعربية أو قراءة العربية في المطارات كان سببا في كثير من الأحيان لمعاناة شديدة، هذا حسب الصحافة العالمية.
أنا سجنت نفسي بنفسي وانزويت كي لا يراني أحد. أنا أصبحت السجين والسجان. لم ألحظ السجان أبدا في مطار بروكسل رغم ذلك مارست دوره وكأنه يقف خلف ظهري وأمامي.
عندها قلت في نفسي لقد أصبحنا كلنا أمثلة لنظرية Panopticism. بيد أننا أصبحنا سجناء دون الحاجة إلى الحراس والسجانين. المراقبة عن بعد والسجن في كل مكان. أنا سجنت نفسي وأنا السجين وأنا السجان.