الحج دون صراخ سياسي

في أول الفهم، وقبل تمامه، نستلهم قول الله الخالد: "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلىۖ وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود" (125) البقرة. هذا المصلى، والبيت العتيق، والبيت المعمور، وحرم الله، وأمنه .. وهو مالك البعث إليه من كل فج عميق، خفافا عباد الله يأتون إليه، يرملون إليه بأقدامهم، وأحمال قلوبهم إلا بقية من خوف كبير، ورجاء عظيم، وذاك الأمل الأخير في أن يتقبلهم الله، وأن يغفر لهم، ويرحمهم، وأن ينظر إليهم ..، وهم في غمرات القاصدين، وهم مع الذين خلعوا (الأنا) في لحظة الإحرام الأولى، تلك اللحظة التي يتجرد فيها المرء عن التميز، وما يجعل الحاج له صفة تفضله على أحد من القاصدين معه، ومن المرملين إلى جواره، تتساوى الأصابع وهي تلتقط حصيات الجمرات، ويتوحد الجمع في تدفق الطواف، ويصهر تعب السعي الجميع في منزلة واحدة بلا تفاوت، ولا اختلاف.
هم جميعا موسومون بسمة (العبودية) وهذا بيت ربهم القاهر الجبار الوهاب برحمة غامرة، وفي لحظات التكوين لروح تتطهر، ونفس تشهد ميلادها للمرة الأولى، ولقلب ينفتح على الله، بجلال الحضور، وكمال النسك، وطهارة الظاهر والباطن. ولهذا سمة تخصيص متعمد وحصر ظاهر جلي "... أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود" هذه منازل قلوبهم، وهذه عبادتهم، وهذه هي القربي إليه، بعد الإجابة والحضور.
في هذا الجلال الروحي العظيم، كان لا بد للحج من أن يتطهر من "أفعال السياسة" وصراخها المتناقض، لا ينبغي لأحد أن يخرج عن ـــ توقيفية ـــ هذه الفريضة، على أحكامها الثابتة المستقرة، بإجماع الأمة، على اختلاف مللهم وتنوع مذاهبهم، فكل الأرواح المؤمنة المقبلة من كل فج عميق، تريد ـــ ذكر الله ـــ في أيام معدودات، تريد أن تلتقي بربها الذي نسيته، وتريد أن تعود مع نفسها التي ضيعتها، وقد جمعها الله بها على طهر جديد، وعقد مع الله وليد.
القصة هنا ـــ ليست إيران ـــ ولا غيرها، الموقف هو ألا تأذن المملكة للسياسيين أن يفسدوا على الناس خلوتهم بربهم، وصمت أرواحهم في حضرته، بصراخهم السياسي المتناقض، والمتغير، والمتحول باستمرار، لقد حج الشعب الإيراني، لقرون متصلة، كسائر المسلمين دون ـــ البراءة من المشركين ـــ كما أن هذه البدعة السياسية، ليست من فروض الحج ولا من أحكامه عند فقهاء الشيعة الإمامية من القرن الأول الهجري وحتى يومنا هذا .. ولا دليل عليها، ما يعني أنها فتوى سياسية، وظاهرة صوتية، تعكر على شعيرة الحج، طهارتها بالسياسية وتناقضاتها .. ولولا المنع، لصرخ كل فريق من الحجيج بانتمائه السياسي، وسيسحبون دنياهم وصراعهم إلى الحج ومناسكه، وهو مقام آخرتهم، ورجوعهم إلى الله ليطهرهم من حبهم للدنيا والاقتتال من أجلها وفي سبيلها!
وإذا رجعنا لسنوات قليلة فقط من الآن كان الإيرانيون يصرخون «الموت لأمريكا» .. مئات المرات في مسيرات ـــ البراءة ـــ البدعة السياسية! التي تمارس في الحج فقط! واليوم أمريكا وإيران يطبعان العلاقة بينهما، وبدأت بلدية طهران تزيل هذه الشعارات من مبانيها العملاقة، تحضيرا لزيارة الوفود الأمريكية للعاصمة طهران!
الجميع يعلم أن هذا صراخ سياسي، والجميع يعلم، أن فريضة الحج، هي قصد الله والعودة إليه، والجميع يعلم، أن فقه الشيعة لا يوجد فيه هذا السلوك، ولا يقره الفقهاء الكبار منهم من ألف سنة .. فلماذا الإصرار على بدعة سياسية في فريضة دينية؟!
من الحكمة أن نعرف .. لولا منع الصراخ السياسي في الحج ومناسكه، لتبادل الناس السباب والشتائم، والدعاء على هذا وذاك، في الطواف والسعي، وعلى صعيد منى، وتراب عرفة. فلا توجد سياسة إلا ولها موالون متعصبون في الولاء، ومعارضون متطرفون في المعارضة، وبين هذا وذاك .. يجب أن تحمي المملكة فريضة الحج ومناسكه من الاثنين معا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي