تقويم الأداء .. تطورات في الاتجاه الخاطئ
ثلاثة محاور تعكس تطور برامج إدارة أداء الموظفين على المستوى الوطني: الأول ما يقوم به القطاع الخاص من دور ريادي تمارسه الشركات الكبرى منذ فترة ليست بالقصيرة ويعتبر النموذج المجرب الذي يمكن إعادة تطبيقه في بيئات جديدة، والثاني يشمل مجموعة الأنشطة الحكومية المرتبطة بتحسين الأداء بما في ذلك مشاريع وزارة الخدمة المدنية الأخيرة، والأخير ما يرتبط بالمبادرات الشاملة التي تعمل على تقويم الأداء المتخصص وتقييسه ـــ مثل هيئة تقويم التعليم ــــ التي تنعكس في بعض جزئياتها على إدارة الأداء الفردي للموظفين. طموحات التحول والتغيرات الجبرية المتأثرة بالظروف الاقتصادية تزيد من أهمية إعادة تفعيل برامج إدارة الأداء بأساليب مؤثرة وسريعة، وديناميكية العطاء والإنتاجية الجديدة لم تعد تتحمل موظفين متقاعسين أو إحباطا وكسلا على المستوى المؤسسي، ولكن هذا لا يعني أن الأدوات التي يتم استخدامها حاليا هي الأدوات المناسبة لهذه الحاجة.
كانت برامج إدارة الأداء تقوم على التقويم السنوي للموظفين، إذ تعتمد على أساليب كلاسيكية تحاول تطوير السلوك والمهارات وتحفيز الموظفين لأداء أفضل بتدوين ملامح الأداء التاريخية بأساليب بيروقراطية مكلفة. عالميا، تغيرت اليوم هذه الأساليب وبدأت في الابتعاد عن النماذج السنوية التقليدية واتجهت نحو أساليب أكثر تفاعلية تقوم على دورات أقصر للتقويم، أسبوعية ويومية مستمرة وتبادل عكسي غير رسمي للرأي، من المدير للموظف ومن الموظف للمدير. تشير الأبحاث إلى تحسن الأداء وارتفاع نسب رضا المديرين والموظفين عند استخدام أساليب التقويم المستمر، بل هناك ما يشير إلى تحسن الإيرادات ورضا العملاء كذلك.
تحول في العقدين الأخيرين كثير من الشركات العالمية الكبرى نحو برامج التقويم المستمر مثل شركات مايكروسوف وأكسينتشر وبي دبليو سي، بل إن شركة جنرال إلكتريك التي عرفت بأحد أفضل برامج تقويم الأداء على المستوى الدولي وما يسمى "منحنى الحيوية" Vitality Curve تراجعت عنه أخيرا، واتجهت نحو التقويم المستمر باستخدام تطبيقات الجوال. يبرر تنفيذي جنرال إلكتريك التحول بأن نموذج قائدهم الأسطوري جاك ويلش الذي كان يعتمد على التحكم والسيطرة تحول إلى نموذج آخر يعتمد على التواصل والإلهام. أتساءل، لماذا نبدأ من جديد في تدشين الأساليب التقليدية المكلفة التي يبتعد عنها الآخرون ونترك الحلول الأحدث التي قد تكون الأصلح لنا خصوصا في ظل التحديات الإنتاجية والسلوكية الحالية التي لن تحل قطعا بحلول تقليدية عفى عليها الزمان؟
تاريخيا، تبدلت أساليب تقويم الأداء بالتركيز في كل مرة على أحد الجانبين المختلفين تماما: الرقابة المنضبطة أو التطوير المرن، وبشكلها الحديث أصبحت أقرب للتطوير المرن من الرقابة المنضبطة. العمل في المؤسسات ـــ حكومية كانت أو خاصة ــــ بنماذج شبه عسكرية أصبح شيئا من الماضي. على النقيض تماما، نراهن اليوم على نجاح مؤسساتنا بدمجها بين روح الشباب والتركيز على الإبداع والمرونة، وهذا تحديدا يتطلب أساليب أكثر ابتكارا في إدارة الأداء وتقويمه. مثل هذا الفكر الحديث لا يتفق مع ما نشر أخيرا من أن وزارة الخدمة المدنية وبمشاركة معهد الإدارة العامة تقوم بتنفيذ ورش عمل لشرح اللائحة الجديدة لتقويم الأداء التي تستخدم التصنيف الإجباري Forced Ranking للموظفين. هذا لا يختلف كثيرا عما تقوم به بعض الشركات المحلية الكبرى، ولكن لا يعني بأنه الأفضل. هناك من يقول إن هذه أفضل طريقة للابتعاد عن توزيع التقديرات العالية لجميع الموظفين، ولكن هل نحارب الممارسة الإدارية السيئة بأخرى لا تصنع الفارق؟ إن الهدف الأساسي لإدارة الأداء يتعلق بمواءمة السلوكيات وإنتاجية الموظفين لأهداف المنظمة، ولتحقيقه يجب أن نستخدم أفضل الطرق التي يمكن أن يرضى بها المديرون والموظفون على السواء وتثبت نجاحها على أرض الواقع.
أتمنى أن يتدخل خبراء الموارد البشرية الممارسون والفرق البحثية المتخصصة بالمسارعة في توجيه مسار التطورات التي تهدف إلى رفع الإنتاجية الفردية كمطلب وطني ملح، بالابتكار والبدء من حيث انتهى الآخرون، فالوضع لا يحتمل مزيدا من التجارب لعدد من السنوات ثم نعيد دورة التصحيح من جديد. من الملائم أن تتم الاستعانة ببيوت الخبرة العالمية المتخصصة في إدارة الأداء بشكلها الحديث بشرط بناء القدرات ودعم مقدمي الخدمات المحليين. قد يكون من الملائم أن تتحول بعض مكاتب استشارات الموارد البشرية المحلية إلى مقدمي خدمات نوعيين يملكون أفضل الأدوات في تقويم الأداء، ليشاركوا في مواجهة تحدياتنا بشكل أفضل وبطرق عصرية ملائمة؛ مثل هذا الأمر لا يحدث بالمصادفة، بل يتطلب القبول والترتيب من وزارتي الخدمة المدنية والعمل والشؤون الاجتماعية ليتحقق كما يجب.