رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


الاستثمار في «الشيخوخة»

سمعت أحد كبار السن وهو في منتصف الستينيات يشتكي من العزلة الاجتماعية وضعف الحالة الاقتصادية وعدم قدرته على تحمل نفقات العلاج في المستشفيات الخاصة حيث إن مواعيد المستشفيات الحكومية طويلة جدا، وأنه يبحث عن عمل يشغل به وقته ويزيد من دخله إلا أنه لم يجد العمل المناسب لخبراته ومؤهلاته وسِنه.
قلت له أنت أديت واجبك تجاه الوطن بالعمل لسنوات طويلة كما أديت واجبك تجاه المجتمع بتكوين أسرة أنجبت الأبناء والبنات الذين يشاركون اليوم في بناء الوطن وحمايته وحان وقت الراحة والاستمتاع فيما تبقى لك من العمر وعليك أن تبحث في مجالات الراحة والسعادة والمتعة فلذلك أثر كبير على حالتك النفسية وبالتالي على صحتك.
أجابني ضاحكا بأن هذا ما كان يريده ويتوقع أنه المطلوب ولكن سرعان ما تبين أنه لا سعادة للإنسان إلا بالتوازن بين العمل والعطاء والراحة والاستجمام، وأن الابتعاد عن العمل والعطاء أيا كان نوعه أحد أسباب عدم الراحة ولربما الاكتئاب أيضا وتردي الحالة النفسية والصحية ومداومة مراجعة المصحات والمستشفيات وارتفاع فاتورة العلاج بشكل لا يطاق.
وتابع حديثه قائلا.. المتقاعد يعيش أزمة اجتماعية، حيث انصرف الأبناء لشؤون حياتهم الزوجية والعملية وأزمة نفسية نتيجة ترك العمل ومكتسباته خصوصا إذا كان المتقاعد ذا منصب، وأزمة صحية نتيجة تكالب الأمراض عليه شيئا فشيئا فضلا عن وهن الشيخوخة، وما لم يكن المتقاعد من أصحاب الأملاك كالمزارع والبنايات المؤجرة التي تشغل وقته وتدر عليه المال فيستطيع السفر والتنقل فإن حالته تتردى شيئا فشيئا وتنطبق عليه مقولة بعض المتقاعدين عندما تسألهم كيف أحوالكم فيكون الرد "مِت قاعد".
وأقول مشكلة الشيخوخة أو مرحلة ما بعد التقاعد مشكلة عالمية ولها تبعات اقتصادية واجتماعية ونفسية وإن كانت معظم دول العالم تركز على جانبها الاقتصادي حيث ارتفعت متوسطات الأعمار في الدول الصناعية والمتقدمة اقتصاديا إلى 85 ــ 90 عاما مما زاد مدة حياة المتقاعدين لتبلغ 25 إلى 30 عاما وهي سنوات تنظر لها الدول اقتصاديا كسنوات تكلفة تضاف للسنوات الأولى من العمر التي يتم فيها تعليم وتأهيل الأفراد ليشاركوا في أسواق العمل وهي فترة تمتد من 23 إلى 25 عاما وربما أكثر في بعض التخصصات وبالتالي فإن سنوات التأهيل والرعاية تبلغ من 48 إلى 55 سنة مقابل أقل من 40 عاما عملا وعطاء مع مراعاة أن سنوات التأهيل وسنوات التقاعد عالية التكاليف حيث تخصص الدول موازنات هائلة للتعليم العام والعالي كما يتكلف الاقتصاد أموالا طائلة لمعالجة المتقاعدين الذين يعانون أمراض العصر والشيخوخة معا.
ولقد أصبحت الشيخوخة تشكل هاجسا لأكبر الدول الاقتصادية كالصين على سبيل المثال التي باتت تعاني ازدياد نسبة الشيخوخة منذ ثلاثة عقود حيث وصل عدد من تجاوزت أعمارهم الـ 65 إلى 131.6 مليون شخص، يمثلون 9.7 في المائة من سكان الصين "حسب وزارة شؤون المواطنين الصينية"، ويتوقع أن يصل عدد من هم فوق الـ 60 في الصين إلى 300 مليون شخص بحلول عام 2025، وأن تبلغ نسبة المسنين بين مواطني الصين 30 في المائة بحلول عام 2050 وهو أمر يعتبر أحد أهم التحديات التي تواجه الاقتصاد الصيني في العقود الثلاثة المقبلة.
ولو ركزنا في أهم محاور مشكلات الشيخوخة لوجدناه يتمثل في العمل، حيث إن ترك العمل يؤدي إلى مشكلة الفراغ وتداعياته، وإلى مشكلة انخفاض الدخل، وإلى الشعور بالعزلة وعدم الأهمية والاهتمام وكل ذلك يؤدي إلى تدهور الحالة النفسية والصحية بشكل متسارع، حيث تسهم هذه العوامل في تسارع التدهور والضعف الجسمي والصحي وتمكن أمراض الشيخوخة كتصلب الشرايين والقلب وضعف العضلات والنظر والسمع، وبالتالي لو تم التركيز على معالجة مشكلة العمل لدى المتقاعدين وتم إيجاد البدائل المناسبة لهم في سوق العمل الذي يعج بالفرص التي يشغلها الوافدون، بما في ذلك كبار السن منهم، لاستطعنا في بلادنا أن نحول هذه الطاقة الخاملة إلى طاقة فاعلة منتجة ولاستطعنا أيضا أن نرتقي بحالتهم النفسية والصحية وتمكينهم من أسباب السعادة.
ولقد دعا مختصون في الاتحاد الأوروبي لتفادي سلبيات "الشيخوخة" إلى إدخال مزيد من النساء والمسنين إلى سوق العمل وتشجيع تحركهم داخل حدود أوروبا كأحد الحلول المقترحة لمواجهة ظاهرة الشيخوخة، وبكل تأكيد فإن لدى المتقاعدين من كبار السن تجارب وخبرات وميول وهوايات ومواهب يمكن استثمارها في التصدي لكثير من المشكلات ومواجهة الكثير من التحديات، ولقد التقيت باثنين من الجنسية البريطانية تجاوز عمراهما 70 عاما يعملون بكل همة ونشاط وحيوية واستمتاع في منظمات مكافحة الفساد على مستوى العالم ولم أر عليهم أيا من الأعراض الصحية أو النفسية بل رأيتهم في صحة وسعادة ونشاط أكثر من كثير من شبابنا.
لدينا قطاع مؤسسات المجتمع المدني في نمو خصوصا بعد صدور نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية الجديد أواخر عام 2015 الذي يستهدف مشاركة المواطن في إدارة المجتمع وتطويره، ويبدو لي أن هذا القطاع يمكن أن يستوعب مئات الآلاف من المتقاعدين في جميع القطاعات وفي جميع المناطق، حيث يمكن لهم أن يؤسسوا جمعيات ومؤسسات أهلية أو يعملوا بها في المجالات الاجتماعية والتعليمية والزراعية والصناعية والصحية ورعاية الفئات ذات الظروف الخاصة، وكلنا يعلم أن تلك المجالات لا تعد ولا تحصى ويمكن أن تسهم في رفع إجمالي الناتج المحلي كما يمكن أن يسهم المتقاعدون في تنميتها بشكل كبير إضافة لمعالجة مشكلاتهم المترتبة على التقاعد ونقص الدخل ووقت الفراغ والعزلة الاجتماعية.
ختاما، أتطلع إلى أن تأخذ وزارة العمل على عاتقها بالتنسيق مع الجمعية الوطنية للمتقاعدين قضية توظيف المتقاعدين في المجالات المناسبة لخبراتهم وتجاربهم وأوضاعهم الصحية لضرب عصفورين بحجر الأول تمكينهم من بيئة الحياة السعيدة والثاني استثمار طاقاتهم الإنتاجية في العملية التنموية الاقتصادية والاجتماعية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي