المركبات الكهربائية ومستقبل البترول
تقلص الحديث عن ذروة إنتاج البترول وصار نسيا منسيا، رغم أهمية الموضوع. وسيطرت أخبار الصخري، الذي أصبح مألوفا لدى كثيرين، على الإعلام لفترة زمنية وجيزة، حتى من دون فهم كامل لطبيعته. والآن تظهر على الساحة إطلالة المركبات الكهربائية التي يزعمون أنها سوف تقضي على الحاجة إلى البترول ومشتقاته كمصدر للطاقة. فهل هذا الاعتقاد صحيح أم أنه مجرد وهم وتخمين بعيد عن الأمر الواقع؟ وللحقيقة نقول، إننا فعلا بحاجة إلى ما يقلل الاعتماد على البترول، ليس فقط لأنه قابل للنضوب وتاركنا قبل أن نتركه، بل أيضا لتحسين الوضع البيئي وتخفيف انبعاث الغازات السامة التي لوثت أجواءنا وتضر بصحتنا. ولكن ليست هذه هي نظرة المتفائلين بقدوم المركبات الكهربائية. فهم يبشرون باحتمالية انخفاض الطلب على البترول، ومن ثم بوار سوقه كسلعة استراتيجية مهمة، وهو لا يزال في عنفوان شبابه. وهذا فيه كثير من المبالغة وغياب المعلومة العلمية التي تؤيد هذا المبدأ. السيارات الكهربائية، دون شك، أصبحت حقيقة واقعة ولا سبيل لإنكار وجودها أو استبعاد انتشارها. فهي سوف تتكاثر عبر السنين وتملأ الشوارع والطرقات. ومن الذي منا لا يود ركوبها ويستمتع بهدوئها وخلو محيطها من الغازات المضرة بالصحة؟ إنها أمنيتنا جميعا. ولكنها حتما لن تحل مكان جميع المركبات المألوفة التي نشاهدها تنقل مختلف المؤن والأحمال. فسيظل قسم كبير من المركبات التقليدية التي تسير بواسطة الوقود الأحفوري لزمن طويل. ولعله من نافلة القول أن نذكر أن هناك الآن أبحاث علمية وتقنية متقدمة لتحسين عوامل الاحتراق الداخلي للسيارات من أجل تقليل انبعاث الغازات الضارة من نواتج الاحتراق، ونحن مشاركون فيها بفاعلية تامة. وهذا جزء من مسؤولياتنا تجاه متطلبات اتفاقيات المناخ. إضافة إلى وسائل النقل الأخرى من سفن بحرية وطائرات وبعض القطارات، التي لن تجدي معها الطاقة الكهربائية. ناهيك عن استخدامات المشتقات البترولية لأغراض صناعية لا حدود لها. فالذين يظنون أن المركبات الكهربائية سوف تقضي على البترول مهما كثر عددها فعليهم مراجعة حساباتهم. ولكن الأهم في الموضوع بالنسبة لنا ولمستقبلنا، هو الانصراف الجارف نحو الانشغال بالحديث عن إمكانية الاستغناء عن أهم مصدر للطاقة عرفه الإنسان، بعد الطاقة الشمسية، وهو البترول، وعدم إدراك أن الأخير ينضب ونحن نتحدث الآن. وسوف يفاجأ العالم خلال عقود قليلة بنقص حاد في الإمدادات البترولية نتيجة للنزح الكبير الذي نمارسه اليوم من مكامن البترول التي عفا عليها الزمن. وهذا هو الذي يجب بحق أن يشغل بالنا، حتى لا نجد أنفسنا بعد زمن قصير وقد خلت أرضنا من البترول الرخيص، وبقي المكلف وشحيح الإنتاج.
ولكن مهلا، ما ذا تعني لنا فكرة الاستغناء عن البترول ومشتقاته على أرض الواقع؟ سؤال بسيط ولكنه ذو معنى كبير. فعملية التحول من البترول كمصدر رئيس للطاقة سوف تكون متدرجة خلال عقود لكن من المؤكد أنه سيظل المهيمن على الساحة الدولية لعقود طويلة. والاستغناء عنه مع وجوده، كما تروج له بعض وسائل الإعلام، أمر غير منطقي ولا حتى اقتصادي. فخلال المائة وخمسين عاما التي مضت من عمر البترول، أسس المجتمع الدولي له بنية تحتية كلفت ترليونات الدولارات، كما أن هناك الملايين من القوى البشرية المتخصصة التي تعمل في جميع مجالات الصناعة البترولية وما يلحق بها من صناعات بتروكيماوية ووسائل النقل التي تسير بالمشتقات البترولية. هل نقوم بتسريحهم لأن البترول لم تعد له الأهمية التي تمتع بها عبر عصره الذهبي؟ ومن الذي سوف يفرط في البنية التحتية الحالية ويتحمل إنشاء بنية تحتية جديدة ومكلفة؟ هذا فقط لتوضيح أن الأمر ليس بالسهولة التي يظنها البعض. ولا نخال المتخصصين من الاقتصاديين إلا أنهم يوافقوننا الرأي في ما يخص مصير البنية التحتية وأهميتها، فعدد المركبات التي تجوب الطرق على ظهر البسيطة مهول، والموجود منها اليوم يزيد على مليار سيارة. وتقول بعض الإحصاءات المتحفظة إنه في عام 2040 سوف يصل عدد المركبات بأنواعها إلى ما يزيد على مليار وسبعمائة مليون مركبة، وستظل في ازدياد مستمر، ويقدرون عدد المركبات الكهربائية المتوافرة اليوم بمليون وحدة. ومهما تقدمت صناعة المركبات الكهربائية فسوف يكون إنتاجها محدودا نسبيا خلال الأربعين سنة القادمة ولن يفي بجميع متطلبات البشر. ومن المحتمل، حسب المعطيات الحالية، أن لا يصل عدد المركبات الكهربائية 50 في المائة من مجموع المركبات عام 2040. وإذا افترضنا أن نسبة استخدام البترول اليوم في وسائل النقل تبلغ 95 في المائة، فإننا نتوقع أن لا تقل عن 70 في المائة في عام 2040. وفي الوقت نفسه، يكون إنتاج البترول التقليدي قد انخفض كثيرا وبدأ عصر شح الموارد البترولية. ونأتي إلى مربط الفرس، وهو المصدر الرئيس للكهرباء المطلوب لتسيير المركبات. إن توليد الطاقة الكهربائية بالضخامة المتوقعة يحتاج إلى كميات هائلة من الوقود ومن المتوقع أن يتوزع الوقود بين ثلاثة مصادر: الطاقة الذرية، وهي محدودة وفي طريقها إلى الاضمحلال لتقدم عمر مرافقها وميول معظم الدول إلى التخلص منها، والطاقة الشمسية المتجددة التي نتوقع لها دورا مهما وبارزا، وثورة صناعية كبرى خلال العقود القادمة وإلى نهاية الحياة. ولكنها لن تكون وحدها مصدرا رئيسيا خلال المستقبل المنظور نظرا لمحدودية استخدامها خلال غياب الشمس. ويبقى أهم المصادر المتوافرة وهو الوقود الأحفوري، وأهم عناصره الغاز ثم سوائل المشتقات البترولية، مع استبعاد متدرج لاستخدام الفحم لأسباب بيئية وربما اقتصادية. والغاز نفسه كمياته محدودة وقابل للنضوب. وفي حالات كثيرة سوف نكون بحاجة إلى إنتاج البترول لنحصل على نسبة كبيرة من الغاز المصاحب، وهو ما يستدعي الاستمرار في إنتاج البترول، ويعني ذلك أيضا أن المستقبل مرتبط ارتباطا وثيقا بالمصادر البترولية، وعلى وجه الخصوص التقليدي الرخيص. فالأولى، والأنسب والأقرب للمنطق، هو الاهتمام بما تبقى من البترول متدني التكلفة وعدم إهداره عن طريق الاستنزاف الجائر، تحسبا لخرافة الاستغناء عنه. وإذاً، نقولها صراحة، فلا خوف على مستقبل البترول إلا من أهله.