«العشرين» .. لحظة تاريخية فارقة لتتويج الصين بقيادة الاقتصاد العالمي

«العشرين» .. لحظة تاريخية فارقة لتتويج الصين بقيادة الاقتصاد العالمي
الرئيس الصيني يصافح نظيره البرازيلي فى مدينة هانجتشو بمقاطعة تشجيانج. "أ ب"

حينما تقرر دولة بحجم وقوة الصين استضافة قمة العشرين، وفي أوضاع مثل التي تواجهها حاليا من تراجع في معدل النمو الاقتصادي، وتوتر في العلاقات السياسية – العسكرية مع جيرانها في بحر الصين الجنوبي، واحتقان دبلوماسي مع اليابان، وترقب عسكري بين أساطيلها والأساطيل والقوات العسكرية الأمريكية في المنطقة، فإن بكين لا تمتلك ترف الوقوع في هفوة مهما صغر حجمها خلال تلك القمة التي ستتابع وسائل الإعلام الدولية جميع تفاصيلها.
لكن أول ما تجب ملاحظته من رسائل تبعث بها الصين إلى العالم أجمع خلال القمة، هو المكان الذي اختارته لاستضافة قادة وزعماء العالم المشاركين فيها، فالقمة ستعقد على مدار يومي 4-5 من الشهر الحالي وتستضيفها مدينة هانجتشو، وإذا كان العامل الأمني بالطبع يعد أحد أبرز عوامل اختيار موقع استضافة قمة على هذه الدرجة العالية من الأهمية، وفي ظل التحديات الأمنية التي يواجهها العالم وتواجه الصين معه، التي على الرغم من حالة الترقب الدائم لجهازها الأمني، فإن استهداف سفارتها في العاصمة القرغيزية بيشكيك أخيرا وبهجوم انتحاري، يدفع بلا شك إلى أن يكون العامل الأمني في مقدمة العوامل المحددة لاختيار هانجتشو مقرا للقمة.
فالمدينة تبعد قرابة ساعة "بالقطار الطلقة" من مدينة شنغهاي، ولا يتجاوز عدد سكانها ثمانية ملايين نسمة، وبالطبع وبالمعايير السكانية لبلد بحجم الصين يصل عدد سكانه إلى قرابة المليار ونصف المليار نسمة فإن تأمين هانجتشو يعد بالأمر اليسير نسبيا، إذ تم إخلاء المدينة من ثلث سكانها، عبر تشجيعهم على الخروج في رحلات ترفيهية مدفوعة الثمن من قبل السلطات الصينية، وأغلقت بعض المصانع لخفض حدة التلوث، بل وتم هدم أحياء الصفيح والمنازل المتداعية، وبالطبع نشر مزيد من رجال الأمن في مختلف أنحاء المدينة.
لكن الصين بالطبع لم تختر هانجتشو لأسباب أمنية فحسب، إنما أرادت أن تبعث برسالة إلى عدد من الدول المشاركة في القمة، وتحديدا الولايات المتحدة واليابان وإلى حد ما بريطانيا. فما مضمون الرسالة الصينية؟
ألفريد هال الصحفي في هيئة الإذاعة البريطانية ومدير مكتبها في شنغهاي لعشر سنوات يؤكد لـ "الاقتصادية"، أن هانجتشو واحدة من المدن القلائل التي تعبر عن ماضي الصين وحاضرها ورؤيتها لمستقبلها، فالمسؤولون في الصين يطلقون عليها اسم "الفردوس في الأرض" فهي نقطة جذب سياحي، ولكنها أيضا مركزا تكنولوجيا متقدما للغاية، فبحيراتها الخلابة كانت ملهمة لشعراء الصين، ووفقا لليونسكو فهي تعد أحد معالم التراث العالمي، وفيها عديد من المعالم التاريخية التي سيفتخر بها الصينيون أمام قادة العالم، ولن يضيعوا بالتأكيد فرصة التغطية الإعلامية العالمية للقمة، ليضعوا المدينة على خريطة السياحة الدولية.
وأضاف ألفريد هال أن الرئيس الصيني أيضا كان مسؤولا عن الحزب الحاكم في مقاطعة تشجيانغ وعاصمتها هانجتشو لسنوات، لكن الأهم أن المدينة تعد مركزا مهما للتكنولوجيا ففيها على سبيل المثال أكبر شركة في العالم لإنتاج أجهزة المراقبة والتتبع، ومن ثم فهي اختيار موفق يتناسب تماما مع شعار القمة "الابتكار في نمط النمو"، وبتولي الصين لقيادة مجموعة العشرين، يتأكد دخول بكين يوما بعد آخر إلى مركزية الاقتصاد العالمي، خاصة بعد تراجع الغرب جراء الأزمة الاقتصادية، وتصويت الناخب البريطاني للخروج من الاتحاد الأوروبي، وأزمة المهاجرين.
وتأمل الصين عمليا في أن تكون قمة مجموعة العشرين لحظة تاريخية فارقة، تتسلم فيها قيادة المجموعة، وتتوج وبموافقة قادة العالم بقيادة الاقتصاد الدولي، ليس كقوة مهيمنة بل باعتبارها حارسا للاقتصاد العالمي، لمنعه من مزيد من التدهور خاصة في ظل حالة التضعضع التي أصابت الاقتصاد الأمريكي، إضافة إلى تدني مستوى الخطاب السياسي خلال الحملة الانتخابية الراهنة، وما سيتركه ذلك حتما من القبول بالولايات المتحدة كقوة عالمية.
ولكن إذا كانت الصين على الأقل تنظر إلى قمة العشرين هذ المرة باعتبارها تتويجا لها لقيادة العالم اقتصاديا فهل تمتلك فعلا القدرة على ذلك؟ وأوضح لـ "الاقتصادية"، البروفيسور جون هيتشن المختص في الاقتصاد الصيني، أن الأمر لا يقف عند احتلال الصين المرتبة الثانية في الاقتصاد العالمي، فالرئيس الصيني وصف اقتصاد بلاده أخيرا بأن "لديه اقتصادا كبيرا لكنه ليس قويا بعد"، والخطاب الصيني في القمة سيدافع بالطبع عن الاقتصاد الحر والتجارة الحرة وسيدعو إلى مزيد من تحرير الاقتصاد العالمي، ولكن الكلام غير مكلف وسهل، ففي الواقع لا تزال الصين اقتصادا موجها بدرجة كبيرة، وعديد من البلدان الرأسمالية عالية التطور تجد في الاقتصاد الصيني أنه يتمتع بدرجة عالية من الحماية الاقتصادية.
وأضاف هيتشن أن "الاقتصاد الصيني سيخسر كثيرا إذا أغلقت بلدان العالم أسواقها في وجه السلع الصينية"، مشيرا إلى أنه كانت هناك شكوى أخيرا من السفير الألماني في الصين ورئيس غرفة التجارة في الاتحاد الأوروبي من أن بكين لا ترحب برجال الأعمال الأوروبيين، وإذا أردات بكين أن تتبوأ مركز القيادة الاقتصادية عالميا فعليها تحرير اقتصادها الوطني، وأن تسمح لرؤوس الأموال الأجنبية والقطاع الخاص بالولوج إلى القطاعات الاقتصادية الحيوية، وإلا فستكون تلك القطاعات حكرا على مؤسسات الدولة.
وتسعى الصين إلى تخفيف حدة الاعتراضات التي تواجهها من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان، وذلك عبر استباق القمة بمجموعة من الإجراءات الاقتصادية الداخلية، تتجاوب نسبيا مع الضغوط الدولية التي تتعرض لها، ففي مواجهة رغبة البلدان الرأسمالية عالية التطور في فتح أسواق رأس المال في الصين بشكل كامل، سمحت السلطات المالية بمزيد من القنوات الاستثمارية لرؤوس الأموال الأجنبية في بورصة شنغهاي، ومنحت تراخيص لبنك جي بي مورجان، كما قررت أيضا الاستجابة للضغوط الدولية بالحد من الإفراط في إنتاج الحديد عبر إغلاق بعض مصانعها، كما أظهرت استعدادها لتحفيز معدلات التبادل التجاري الدولي بخفض الرسوم الجمركية في الموانئ.
إلا أن آخرين يرون أن رغبة الصين في قيادة الاقتصاد العالمي، لن تتناقض مع تركيز جميع المشاركين على أن تحتل أوضاع الاقتصاد العالمي أولوية المحادثات في القمة، فالاقتصاد العالمي يعاني بطئا في معدلات النمو وعدم استقرار، وللعام الخامس على التوالي ستكون نسبة نمو الاقتصاد الدولي أقل من 3 في المائة، أما معدل نمو التجارة العالمية فلن يتجاوز هذا العام 2.8 في المائة، كما أن على سوق العمل الدولية استحداث 42 مليون فرصة عمل سنويا، وهو ما يصعب تحقيقه في ظل الأوضاع الاقتصادية المتدنية في الوقت الراهن.
وتقول لـ "الاقتصادية" وندي هاتفيلد الباحثة الاقتصادية، "إن الاتفاق السائد حاليا هو ضرورة القيام بإصلاحات هيكلية في الاقتصاد العالمي للتعامل مع التحديات، لكن هناك تباينا بشأن المقصود بكلمة هيكلية، فالصين تنظر إليها من منطلق مزيد من الاستثمارات في البنية التحتية، باعتبار ذلك محركا حيويا للنمو والتعافي الاقتصادي، لكن البلدان الغربية المتطورة واليابان تعتبر أن كلمة هيكلية تتطلب مزيدا من إصلاح السياسات المالية، وخفض العجز في الميزانية العامة، وتحرير الصين عملتها الوطنية وفتح أسواقها الداخلية.
ويبدو أن صندوق النقد الدولي يدرك طبيعة تلك الخلافات ما دفعه إلى العمل على إمساك العصا من المنتصف، عبر استباق القمة بطرح توصيات تهدف إلى إرضاء جميع الأطراف وتفادي تعكير الأجواء.
ولا شك أن تأكيد كريستين لاجارد مديرة صندوق النقد على ضرورة محاربة الحمائية الدولية التي تؤدي إلى انخفاض معدلات النمو في التجارة الدولية، وتبني سياسات مالية وضريبية أكثر مرونة يبدو خطابا أقرب إلى قناعات البلدان الرأسمالية الغربية، لكنها في ذات الوقت سعت إلى إرضاء الصينيين بالحديث عن أهمية الإصلاحات الهيكلية.
ومع هذا فإن بعض المختصين يخشون من ألا تسفر القمة عن أكثر من أحاديث تجرى أمام الميكروفونات والشاشات، دون أن تترجم إلى واقع حقيقي جراء التوترات السياسية السائدة داخل أروقة القمة.

الأكثر قراءة