مبادرات رائعة بلا نتائج

من العدل ألا نقول عن المبادرة الرائعة التي تفشل في تحقيق أهدافها إنها قول دون فعل أو مجرد كلام، لأن المبادرة لا تكتسب مسمى المبادرة إلا حين نراها على أرض الواقع وهذا يعني جهودا كبيرة من التخطيط والتنسيق والتنفيذ. هي قول وفعل، ولكن المشكلة أن معظم المبادرات التي نراها اليوم هي أفعال حقيقية بلا أثر يذكر. تزداد أهمية هذا الموضوع لازدياد المبادرات، ربما إن صح القول لأننا نعيش في زمن المبادرات التي لا تنتهي، والنتائج التي لا نرضى بها في كثير من الأحيان. تكون النتائج غير مرضية عندما يكون الأثر غير موجود أو موجودا ولكنه غير محسوس، وهذا بلا شك ما يدفعنا إلى الحكم بفشل المبادرة. هذا لا ينفي أن بعض المبادرات الجيدة تهزمها مقاومة التغيير، وهذا يحسب على المسؤولين عن المبادرة، لأنهم لم يتعاملوا مع التغيير كما يجب. أحيانا ينجح تنفيذ المبادرة ولكن تغطي سلبياتها غير المحسوبة على إيجابياتها المرجوة، هنا أيضا تصبح المبادرة فاشلة.
تقوم معظم الوزارات اليوم ـــ وعديد من الجهات الأخرى غير الحكومية ـــ بإطلاق المبادرات من حين إلى آخر بغرض تحسين ما تقدمه من خدمات. ولسبب ما تتشابه أساليب المبادرات التي تبدأ من انتظار طويل جدا من المهتمين والمستفيدين تلحقه تكهنات وشائعات، ثم يحصل تدشين علني ترافقه حملة إعلامية وهوية جديدة وتصريح بالطموحات والأهداف وعدد من الالتزامات على أطراف أخرى. يختفي بعض المبادرات بعد أن يعيش برهة من الوقت على استحياء، وبعضها يستمر ويثير الجدل ويخلف عديدا من ردات الفعل. هل زخم المبادرات أمر صحي ولكن المشكلة تختص بدائرة التفاعل بين العمل والأثر غير المكتملة، أم أنها مجرد فوضى من المبادرات التي تختفي خلفها أعمال متواضعة وإدارات غير مؤهلة؟
هناك خلط كبير في تصنيف الأعمال كمبادرات، بعضها هو مجرد حملة توعوية والآخر جزء من برامج منتظمة ودائمة؛ في حين ترتبط كلمة مبادرة أساسا بالأعمال الجديدة التي يتم إطلاقها للمرة الأولى ولا تشمل ما هو من صميم عمل الجهة ويتم القيام به بشكل اعتيادي. على سبيل المثال، تعلن بعض الجهات خطتها الاستراتيجية على شكل مبادرة، هل ننتظر أن "تبادر" جهة ما بصنع خطة استراتيجية والعمل على تنفيذها؟! وجود الخطة الاستراتيجية من أساسيات العمل الإداري ولا يتطلب إطلاق مبادرة. بعض الجهات الأخرى تعلن عن أهدافها التي يتم تناقلها إعلاميا كمبادرات تستحق الثناء، وهذا أيضا من المبالغة والتطرف في التقرير والنقل. محور الحديث هنا هو عن كل الأعمال والبرامج التحسينية التي يتم تنفيذها على المستوى العام والتي تتطلب مشاركة عديد من الجهات لتحقق أهداف محددة تهم المواطنين أو جهات أخرى تقوم على خدمة المواطنين.
الحديث عن كفاءة وفاعلية هذه الأعمال حديث طويل يشمل الكثير من المحاور والعناصر، وهذا من مسؤولية القادة ومديري المشاريع أنفسهم الذين يجب أن يلموا بالجوانب المتعلقة بنجاح المشروع، سواء كانت إدارية أو اجتماعية أو اقتصادية أو غير ذلك. ولكن، من وجهة نظر المستفيد أو عامة الناس لابد أن يتم التعبير عن النتائج والأثر بشكل مستمر، واضح، وبمصداقية عالية. نحن نتحدث هنا عن شفافية كافية ومختصين مؤهلين يملكون ما يلزم لقياس المعلومات وتفسيرها بشكل جيد وإيجابي. القدرة على تقييم العمل بموضوعية لا تحدث إلا بالتركيز على العمل ثم تحليل النتائج وآثار هذه النتائج بالأسلوب العلمي الذي يستند إلى ما يتاح مع معلومات مع ربط المقدمات بالنهايات والوعود بالنتائج.
أعتقد أننا نفتقر إلى ثقافة قياس الأثر وإلى الأدوات والقنوات التي تمكننا من ذلك، وهذا يخفف الضغط الإيجابي الذي يمكن صنعه على من يطلق المبادرات من حين إلى آخر. من الطبيعي أن يخضع من يعلن التزاماته أمام العامة للمساءلة العامة ومن اللازم على من يبادر بإطلاق الوعود الإعلان عن نتائج أعماله بشكل ونوعية تسمحان بقياس وتفسير هذه النتائج. لهذا من الضروري جدا أن يتم تقييس المعلومات المتعلقة بالمبادرات والبرامج التي تطلقها مختلف الجهات والعمل على الإفصاح عنها بشكل منتظم وقياسي. ولأن تفاصيل هذه المبادرات قد تكون أكثر مما تعمل عليه جهة مثل الهيئة العامة للإحصاء وهي الجهة المركزية الأساسية التي تعمل على إحصاء المعلومات على المستوى الوطني، أقترح أن تقوم الهيئة بإنشاء مركز لرصد ومتابعة الأعمال والمبادرات المعلنة. وخصوصا أن الكثير من المبادرات والأعمال لا تدخل بشكلها المعلن ضمن السجلات الإدارية والمسوحات الميدانية التي تشملها أعمال الهيئة. قد يكون من المناسب ــــ والمحفز جدا ـــــ لمعلن المبادرة والمستفيد منها أن يتم تسجيل المبادرات لحظة الإعلان عنها في هذا المركز المقترح بمعرف مميز يوضح مجالها وأهدافها، وأن يتم تحديث سجل المبادرة بالبيانات الحقيقية والنتائج الإيجابية المرتبطة بمؤشرات الأداء المخطط لها بشكل دوري مستمر تحت إشراف الهيئة وهي بيت الخبرة الوطني في إدارة ورصد المعلومات والتقرير عنها. وهكذا يمكن لأي مهتم ومستفيد متابعة مبادرته ــــ وغيرها من المبادرات ــــ من طرف مستقل ضمن النشرات الإحصائية الدورية المعلنة، التي لن تتوقف عن نشر التحديثات الخاصة بمبادرة ما إلا بعد الإقرار الرسمي بانتهاء المبادرة وليس نسيانها كما يحدث أحيانا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي