هل نوجه سوق العمل لتحقيق «رؤية 2030»؟
سوق العمل يمثل أحد المواضيع الساخنة الباردة في ذات الوقت، تشبه في ذلك طعاما تحته شمعة، فطالما أن الشمعة تعمل يظل ساخنا، لكن ما إن تنطفئ الشمعة يبرد الطعام، ويفقد جاذبيته، يتم تناول موضوع سوق العمل، والتركيز عليه في مناسبات، أو ظروف معينة، وما إن تزول الظروف، أو المناسبات إلا ويزول الاهتمام به، وفي تقديري أن السبب يعود في الأساس إلى غياب التفكير الاستراتيجي الذي يجعل جهات التخطيط والتنفيذ والتثقيف ممثلة في مؤسسات الإعداد، والتدريب، إضافة إلى الجهات المعنية بالتوظيف، ومحاربة البطالة. نسبة النمو السكاني في المملكة عالية، وإدراكنا لهذه الحقيقة يتطلب منا السعي الحثيث لسد الخلل المتمثل في وجود فرص العمل مع وجود بطالة في فئة الشباب، ولو قدر لأحدنا، وتحدث مع إنسان أجنبي معلوماته عن السعودية مقتصرة على النفط وآباره التي يظن الإنسان الغربي أن لكل واحد منا بئره لما صدق بوجود البطالة في بلد النفط.
أين الخلل في هذا الوضع غير الطبيعي؟! الحكومة أوجدت مؤسسات الإعداد، ومؤسسة التدريب التقني و المهني التي تنتشر معاهدها، وكلياتها في كل أنحاء المملكة ومنذ عشرات السنين، لكن السؤال المحير: أين المخرجات، أي لماذا لا نجدهم في ميدان العمل يزاولون المهن التي تعلموها وتدربوا عليها؟! لا بد من أسباب تقف وراء هذا الوضع، هل الخريجون يعملون، وأين يعملون، وهل يمارسون المهن نفسها التي تعلموها، وتدربوا عليها، أم انصرفوا إلى مهن أخرى، ولماذا اختاروا المهن الأخرى؟ للإجابة عن هذه الأسئلة يلزم أن نسأل: لماذا التحقوا بهذه المعاهد، والكليات من الأساس؟ التحاقهم قد لا يكون عن رغبة حقيقية، ولكن لعدم تحقق شروط الالتحاق بأماكن أخرى؛ لذا اضطروا للالتحاق بها يقضون بها جزءا من أعمارهم ثم لكل حادث حديث كما يقول المثل، وإلا فالرغبة ليست متوافرة لديهم من الأساس، يضاف لذلك ضعف الإعداد المهني، ما يفقدهم القدرة التنافسية مع من يعمل في الميدان لسنين، وحاز على تدريب عال أكسبه مهارة في مجاله، وسمعة في الميدان، كما أن من الأسباب الجوهرية _ ما يعتقد خطأ_ بمزايا الوظيفة الحكومية، وهذا بحد ذاته تحول إلى ما يشبه الثقافة الاجتماعية المفضلة للوظيفة الحكومية على حساب الأعمال المهنية الأكثر دخلا، والأقوى فرصا لتطوير الذات، والنمو المستمر بدلا من الروتين، والبيروقراطية الحكومية التي تنتهي بالفرد كما بدأ.
الميدان في القطاع الخاص مليء بالكوادر الوافدة من كل مكان، وجزء منها يعمل لصالح المستثمر السعودي، لكن جزءا آخر يعمل باسم سعودي، والغنيمة والمكاسب الكبرى للوافد، في حين لا ينال السعودي إلا الفتات، وهذا بحد ذاته يمثل مرضا اجتماعيا لا يزيد وضع البطالة إلا تفاقما، مع ما يترتب على ذلك من سلبيات تتراكم مع الوقت لتشكل مصدر إزعاج للأسر، والحكومة على حد سواء. الخلل في سوق العمل تسهم فيه الجهات الرسمية، حيث أصبحت تتعاقد مع مؤسسات، وشركات لإنجاز أعمالها، كالبلديات، والمياه، والكهرباء، والمؤسسات، والشركات تستقدم من يقوم بتنفيذ أعمال عقودها لرخص أجورها، أو لأي اعتبارات أخرى، وفي هذا إضاعة لفرص العمل للسعوديين، ما يشكل سببا من أسباب البطالة.
معالجة الموضوع تقتضي تضافر جهود عديد من الجهات الرسمية، وغير الرسمية، فالتعليم العام أول مرحلة يدلف إليها الطفل في سلم التعليم مطالب بإيجاد المناهج الدراسية التي تهيئ الجيل نفسيا، وعقليا لتقبل العمل الفني، وتشكيل اتجاهات إيجابية نحوه، أما جهات الإعداد المتمثلة في الجامعات، والكليات، والمعاهد الفنية مطالبة بإعادة النظر في برامجها لترتقي إلى مستوى التحدي، والتقدم التقني المتسارع ليكون خريجوها على مستوى عال من التأهيل يسقط حجة ضعف المخرجات. كما أن الإعلام يمكن أن يسهم في تغيير الثقافة السلبية نحو الأعمال المهنية بدلا من التركيز على البرامج الترفيهية الهابطة، أما جهات التوظيف كوزارة العمل والتنمية الاجتماعية، والخدمة المدنية لها دور بارز في استحداث الأنظمة واتخاذ القرارات التي تمكن المؤهل السعودي ليحتل مكانه في سوق العمل.
سوق العمل يفترض أن تكون قضية حية على جميع الصعد إذا ما أردنا القضاء على البطالة، وتمكين أبناء المجتمع من خدمة وطنهم في جميع المجالات بدلا من تركها على الرف وإنزالها في ظروف طارئة لتعود إليه في وقت لاحق. إن النجاح في معالجة مشكلات سوق العمل أولا بأول ستسهم في تحقيق "رؤية المملكة 2030".