بـ «تسييس الحقوق» والمتاجرة بها .. منظمات دولية تشق الصف الإنساني

بـ «تسييس الحقوق» والمتاجرة بها .. منظمات دولية تشق الصف الإنساني
القبول بعصمة هذه المنظمات مناف لمبادئ الحرية، فهل أصبحت من التابوهات التي لا يمكن الاقتراب منها؟

جاءت فكرة تأسيس المنظمات غير الحكومية الدولية في الأصل لضمان استقلالية مواقف وآراء هذه المؤسسات، في القضايا المعروضة على أنظارها أو التي تشتغل عليها، وتوفير الضمانات الكافية للحياد في الملفات التي تتولاها، فروح عمل هذه الهيئات قائم على فرض مسافة أمان تجاه كل الأطراف.
غاية يصعب نيلُها متى كانت هذه المؤسسات خاضعة لدولة محددة أو مجموعة من الدول، فالمؤكد حينها أن أجندات معينة أو مواقف مبطَّنة ستكون حاضرة بشكل من الأشكال في أعمال وبرامج وتقارير هذه المنظمات.
وبالعودة إلى أبسط تعريف لها، نجده يفيد بأن هذه المنظمات ذات مصلحة عامة، وغير خاضعة لأي حكومة أو مؤسسة دولية. وتنشط في مجال اشتغالها دون رقابة من الحكومات الوطنية. غير أن هذا لا يحول وإمكانية التعاون مع تلك الحكومات أو تلقي التمويل والدعم منها.
تزايَد الاهتمام بهذه المنظمات، وبالأخص المشتغلة على قضايا الحريات وحقوق الإنسان، في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، بعد انتقال العالم من نظام الثنائية القطبية إلى نظام الأحادية؛ أو المركزية الجديدة بقيادة الولايات المتحدة، وما خلفه ذلك من تأثير بالغ في اشتغال مؤسسات القانون الدولي، ونقصد تحديدا منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة؛ إذ تعالت أصوات حرة وضمائر حية في الغرب قبل الشرق متسائلة عن مصير المصداقية والحيادية المفترضين في هذه المنظمة، متى كان دركي العالم (الولايات المتحدة الأمريكية) أو أحد حلفائه طرفا فيها حاضرا في القضية.
جاء هذا الاهتمام أملا في أن تكون هذه المنظمات الحقوقية غير الحكومية الدولية منبرا للمستضعفين في الأرض، وقناة يستطيع من خلالها هؤلاء إسماع أصواتهم إلى بقية الشعوب، وقنطرة عبور يحمل إلى أحرار العالم مآسي وقضايا المنسيين في الأرض، ممن خذلهم العالم ومؤسساته الرسمية.
وهو ما كان فعليا في زمن التسعينيات، وفي الأعوام الأولى من القرن الحادي والعشرين، عندما تصاعد مد وتأثير هذه المنظمات؛ بفعل أدوات العمل وطرق التقصي والرصد ومناهج إعداد التقارير، ما أسهم بشكل مطرد في تزايد تمثيليات هذه المنظمات في رقعة كبيرة من العالم.
سطوع نجم بعض هذه المنظمات جراء الثورة التي عرفها مجال وسائل الاتصال الحديثة، وتراجع دور المنظمات الحكومية الدولية، جعل الهيئات طي الحديث محط أنظار القوى الكبرى في العالم التي فرضت غالبيتها نفسها فيها، وبشكل غير مباشر إليها، من باب التمويل مغتنمة طموح تلك المنظمات نحو التوسع والانتشار. لكن بغاية توظيفها كأداة للتدخل في شؤون البلدان الأخرى مستغلة رصيد المصداقية الذي حصدته تلك المؤسسات طوال عقود من العمل الميداني.
من جهة أخرى، كانت هذه المنظمات مطمحا لطائفة من المسترزقين بقضايا أوطانهم أو المتاجرين بقضايا الشعوب وأزمات الإنسانية، ممن دخلوا أو بالأحرى اندسوا في هذه المنظمات كمناضلين أو معارضين أو صحفيين أو أشباه مثقفين... أو غير ذلك من القبعات التي تجعلهم في موقع قوة، لتصفية حساباتهم القديمة مع خصومهم وبلدانهم الأصلية أو كمخترقين لهذه المنظمات لخدمة سياسات وكلائهم ومن سخروهم، مستغلين بذلك اسم وشرعية هذه الهيئة أو تلك المنظمة.
تزامن ذلك مع رغبة هذه الهيئات في التوسع وحشد الأعضاء والأطر والكوادر في أجهزتها الإدارية وهياكلها التنفيذية، ما جمع فيها متخصصين ومناضلين حقيقيين ممن يؤمنون بالقضايا الحقوقية التي تعلم عليها تلك المؤسسات، وجمهرة من المتزلفين ممن يستغلون تلك الصفة للحضور اليومي في وسائل الإعلام، وإعطاء دروس للآخرين في قضايا ومواضيع لا يكاد يفهمون فيها إلا المداخل، والأبجديات الأولى التي يلتقطونها في اللقاءات الداخلية أو الجلسات العامة هنا أو هناك.
تداخل العامل الخارجي المرتبط بسعي الدول نحو توظيفها غطاءً للضغط والتّدخل مع العامل الداخلي المتعلق بتقوية الموارد البشرية، وتدعيم التمثيلية في هذه المنظمات، فأفقدا هذه الهيئات الكثير من مصداقيتها وغير ما قليل من تلك الشرعية التي كانت لديها، خصوصا في العقد الثاني من الألفية الثالثة.
وهكذا صرنا نشهد ازدواجية في التعاطي مع قضايا حقوق الإنسان على المستوى العالمي، وبدرجة خاصة المنطقة العربية. فمنذ 2010 إلى اليوم، وبعد ست سنوات حبلى بالكثير من المتغيرات في بعض البلدان العربية، لا تزال تقارير هذه المنظمات تعزف على الوتر ذاته وبالإيقاع الرتيب السوداوي نفسه، دون أي اهتمام بما أفضت إليه الأحداث المتتابعة في عديد من البلدان بهذا الإقليم.
أفقدت سلطة الإعلام ولوبيات القوى الكبرى تقارير هذه الهيئات الكثير من مصداقيتها، فالانتقائية وسياسة الكيل بمكيالين باتتا أمرا واضحا في التقارير السنوية لهذه المنظمات، وهو أمر عادي وطبيعي ما دام معدو التقارير غير مختصين، وعديد من المشتغلين في هياكلها من ذوي المواقف المسبقة والأحكام العامة والتحيزات إن لم يكن الأمر مرتبطا بخدمة أجندات بعينها.
يضاف إلى ذلك معطى ميداني يتعلق بالخطوات المنهجية المتبعة في جمع المعطيات وتوثيقها بغية إعداد التقارير، فالأمر يستلزم حيادا منهجيا ومهنيا بتحري الدقة والتزام الحياد والموثوقية، ما يستلزم وجود باحثين في الميدان وشهادات موثقة وبراهين واضحة، وفوق كل هذا وذاك عدم التمييز والاستماع إلى كل الأطراف.
دون أن ننسى بلوى تعم أغلب المنظمات الحقوقية الدولية يتعلق بالاعتماد على أطراف محلية في إعداد التقارير، وإسناد مهمة التقصي الميداني لهم، دون أخذ بعين الاعتبار أن أغلب هؤلاء أصحاب موقف، وطرف في النزاع أو الموضوع طي البحث، ما يعني بالضرورة أن معطياته تتنافى والمنهج المفروض اتباعه.
ما سبق يقودنا إلى أن الإقرار أو ربما "الاعتراف" بأن الحياد المطلق لمنظمات حقوق الإنسان العالمية في الوقت الراهن أضغاث أحلام، وفي ذلك كتب أحدهم يقول: "التقرير الحقوقي الخالي من الشوائب السياسية «فكرة مثالية»، لكن يجب الحد من «تسييس الحقوقي»، وتقليص التداخل".
وفي انتظار تحقق ذلك نقول نحن "إن منظمات حقوق الإنسان ليست مقدسة أو معصومة أو لا يمكن مناقشتها -كما يريد البعض أن يسوق ذلك-، والقبول بذلك مناف لمبادئ الحرية وضمنها حرية التعبير، فهل أصبحت من التابوهات التي لا يمكن الاقتراب منه؟".

الأكثر قراءة