المراجعة الداخلية مقابل المتابعة والمراقب المالي
تعاني الجهات الحكومة جميعها ـــ تقريبا ـــ مشكلة "توهم" التعارض في وظائف المراجعة الداخلية من جهة، وإدارة المتابعة والمراقب المالي من جهة أخرى، ولأن قرارات إنشاء واستحداث وتوصيف أعمال إدارة المتابعة قد جاءت سابقة للمراجعة الداخلية، فقد كانت إدارة المتابعة مؤسسة جيدا في الجهات الحكومية ولها دور معروف وحضور قوي، وقبول في المؤسسات الحكومية، وكذلك الحال في وظيفة المراقب المالي. لن أتحدث هنا عن اللوائح ولا عن التداخل الظاهري، بل سأوضح بجلاء أنه لا يوجد تعارض بين هذه الإدارات، من حيث طبيعة العمل، وإن حدث تعارض ظاهري ناشئ أساسا من سوء التطبيق في أغلب الحال، والقلق بين منسوبي هذه الإدارات على الصلاحيات والنفوذ.
إدارة المتابعة، ومن خلال اسمها الواضح تتابع سير العمل الإداري في الجهات الحكومية وتقوم بثلاث وظائف مهمة وهي الرقابة "من ضمنها التحري والتفتيش" للتأكد من سلامة العمل اليومي وترشيد الأداء. وإجراء التحقيقات أو الاشتراك فيها، وتقديم الاقتراحات التي من شأنها تحسن سير العمل. فهي تقوم بالعمل الرقابي اليومي، من خلال متابعة الحضور، والقيام بحملات تفتيشية، ملاحظة القصور هنا وهناك، وهذا بالطبع وفق إجراءات عمل تعتمد على الخبرة الشخصية لمدير إدارة المتابعة، ولا توجد قواعد عمل ولا توجد معايير لتنفيذ المهام. المراقب المالي يهتم بمراقبة التصرفات المالية للجهات الحكومية قبل الصرف، وهو إجراء يومي لكل مسوغات الصرف لكل عملية تتم في الجهة الحكومية، فهو ضمن سلسلة العمل الروتيني اليومي للجهة. فكلتا الجهتين تمثل جزءا لا يجزأ من نظام الرقابة الداخلية في الجهات الحكومية، تعملان لمتابعة سير العمل اليومي. وكل إدارة مغمورة حتى إذن في العمل اليومي، الإجرائي للرقابة الداخلية.
المراجعة الداخلية عالم مختلف، عالم له سحره وبريقه ونشوته، عالم من يدخل إليه يحزن ثم إذا خرج منه يحزن. ولعله من الغريب جدا القول وخلال اقترابي من المراجعين الداخليين لسنوات عدة، إنه في النادر جدا أن تجد مراجعا داخليا "حقيقيا" غير سعيد في عمله. المراجعون الداخليون كالأطباء في المستشفيات، بمهارة وإدارة وعمل له إجراءاته ومعاييره وأدواته الخاصة جدا يشخصون أمراض الجهاز الحكومي وعلله ويقدمون العلاج، ويتابعون رحلة العلاج حتى النقاهة. وبعيدا عن السرد الأدبي فإن المراجعة الداخلية لا تقوم بأي عمل من الأعمال التي تمت الإشارة إليها في إدارة المتابعة أو المراقب المالي. بل هي تقدم خدمات التأكيد وخدمات استشارية للجهات الحكومية. كيف؟ سأشرح ذلك ببساطة متناهية.
تعمل الجهات والإدارات الحكومية بمختلف مهامها ضمن منظومة من التقارير، لا توجد جهة أو إدارة ليست لها تقارير. سواء كانت هذه التقارير رسمية أو غير رسمية، لها نماذج واضحة في النظام أو ليس لها مثل هذه النماذج. هذه التقارير تمثل في مجموعها معلومات تصل إلى متخذ القرار وبناء على هذه المعلومات يتم صنع القرار، أي قرار سيتعلق حتما بأحد أهداف الجهة الحكومية. والسؤال الذي لن تجد له إجابة من أي مسؤول في أي جهة حكومية هو ما درجة التأكد لديه أو الضمان أن هذه المعلومات التي وردت من جهات تنفيذية داخل النظام سليمة وكاملة ومعدة بشكل صحيح وفي وقتها الصحيح؟ بمعنى آخر ما الذي يضمن لأعلى مسؤول أن الجهة الإدارية التي رفعت إليه بمعلومات معينة أن هذه المعلومات كاملة ولم يتم إخفاء معلومات مهمة؟ ما الذي يضمن له وهو يتخذ قرارا مهما أن هذه المعلومات سليمة لم تعد على عجل وبطريقة خاطئة؟ ما الذي يضمن له أن هذه المعلومات حديثة وليست قديمة؟ إنني أعلن التحدي من هنا ومن خلال "الاقتصادية" لكل الجهات الحكومية التي لا تطبق المراجعة الداخلية تطبيقا احترافيا أن تقدم دليلا واحدا على أن لديها مثل هذه الضمانات. مهما بلغ عدد العاملين في إدارة المتابعة ومهما بلغت براعة المراقب المالي.
الإدارة الحديثة اليوم لم تعد إدارة مهمة كما يفعل كثير من الجهات الحكومية اليوم، ولم تعد الرقابة على المهام اليومية قضية كما تنشغل إدارة المتابعة والمراقب المالي. لقد تحولت الإدارة الحديثة إلى مراقبة الهدف وليس مراقبة المهمة. فالمهام تتغير باستمرار وتبقى الأهداف راسخة. التقارير التي ترفع للمسؤول وبناء عليها يتخذ قراراته في توجيه العمل ليست تقارير ومعلومات عن تحقيق وتنفيذ مهمة بل عن هدف. ولعله من المفاجئ لكثيرين إذا علمنا أن أي هدف سيتحقق بذاته ودون إدارة إذا ـــ وإذا فقط ــــ تم توفير الموارد اللازمة له ولا حاجة إلى مراقبته. فماذا نوجه ونراقب إذا على وجه الحقيقة؟ الإدارة والرقابة الحديثة اليوم تهتم بمراقبة وإدارة المخاطر التي تهدد تحقيق الأهداف. كيف؟
كما قلت تتحقق الأهداف بذاتها في حالة توافر الموارد، ولكن تتعرض الأهداف للفشل إذا ـــ وإذا فقط ــــ تعرضت لمخاطر تسببت في عدم توافر الموارد في وقتها الصحيح. مثلا إذا كان لدى جهة معينة هدف بناء مجمع حكومي، ففي حال توافر الدعم المالي، والمقاول المنفذ، فسيتم إنشاء المبنى دون الحاجة إلى إدارة أو إشراف. لكن هذا ليس الواقع، فالدعم قد يتأخر على المقاول فيتوقف عن العمل، أو قد يتم اختلاس الدعم وتوجيهه إلى غير المقاول، أو أن المقاول غير مؤهل للعمل فيأخذ الدعم المالي دون أن يبني المشروع، أو يبنيه على طريقته وليس على ما كلف به، هذه أنواع من المخاطر التي قد تتسبب في عدم تحقيق هدف بناء المجمع. الإدارة الحديثة اليوم ـــ ببساطة ـــ هي منع هذه المخاطر من أن تقع ومن ثم تفشل الجهة في تحقيق هدفها. ومرة أخرى أعلن التحدي لأي جهة حكومية لا تطبق مفاهيم المراجعة الداخلية الحديثة أن تضمن أنه قد تم التعرف على كل المخاطر التي تحيط بأهدافها، وأن هذه المخاطر تحت التحكم. المتابعة والمراقب المالي يراقبان تصرفات الإدارة اليومية التي لم تزل بعيدة كل البعد عن مفهوم المخاطر، ولا تعرف ولا تستطيع أن تتعرف على قدرة الإدارة على تحديد المخاطر والسيطرة عليها قبل وقوعها. يتبع ..