لباس البحر الإسلامي وديماغوجيا اللغة والإعلام
كثيرا ما نقع في فخ الديماغوجيا اللغوية لا سيما في الإعلام. وقبل أن أبدأ في شرح ذلك، علينا تعريف "الديماغوجيا".
المرادفة هذه أعجمية، أي تمت استعارتها من الإنجليزية demagogy وهي إغريقية المنشأ وتتوافر في كل اللغات الأوروبية ولم تتم ترجمتها بل نقلها كما هي بحروف وأصوات اللغات المختلفة ومنها العربية.
وأقرب تفسير لهذه المفردة هو استخدام اللغة للتلاعب بعواطف وأحاسيس الناس وتجييشهم لمواجهة ما يراه المستخدم أنه خصم له.
في زمن الإغريق "الحضارة اليونانية القديمة" كان الخطباء يستندون إلى الديماغوجيا للتلاعب بمشاعر متلقيهم. اليوم، صار الإعلام هو الخطاب أو الوسيلة الأسهل والأفضل للتلاعب بعواطف الناس وتعبئتهم.
كلنا نمقت الديماغوجيا ومروجيها وأصحابها الذين غالبيتهم من النخبة التي تضع مصلحتها وذاتها وثقافتها فوق الآخرين. والنخبة قد تكون ثقافية، دينية، مذهبية، سياسية، اقتصادية، عسكرية أو غيرها.
النخبة تستند إلى اللغة والإعلام ولا تتورع عن اللجوء إلى الديماغوجيا للوصول إلى مأربها مهما كانت درجة الظلم والاضطهاد والقهر الذي تلجأ إليه.
غايتها الأساسية هي استعباد المجموعات البشرية، لا سيما الضعيفة والمهمشة منها، من خلال أطر خطابية يجترها الإعلام دون تمحيص.
وتأتي خطورتها أيضا من أن الكتل المتلقية للخطاب الديماغوجي، أولا لضعفها وثانيا لهول السطوة الواقعة عليها، تقنع وتقبل وترضى بما ترمى به من أنماط وأشكال لغوية وخطابية وتعدها بمثابة تحصيل حاصل وهي ليست كذلك.
والديماغوجيون يعمدون إلى التكرار لفرض سلوكيات قاهرة على الآخرين وسلب حريتهم وكرامتهم. وقد يصل الأمر بهم إلى التحكم في الآخرين من خلال فرض أنماط محددة على أجسادهم وملابسهم وطريقة حياتهم.
ولكن النخب التي تريد التسلط على الآخرين ترفض الشروط ذاتها التي تفرضها إن حدث وكانت هي في الموقع ذاته.
في كل هذا ينسى الذين يحاولون التحكم بالآخرين، نتيجة اختلاف ثقافي، أن الديماغوجيا لها سقف حال أن تصله قد تنقلب على صاحبها.
وهذا ما حدث بالضبط نتيجة الإلحاح في إهانة الآخر والانتقاص منه لكونه مختلفا ثقافيا في المحاولة الأخيرة التي أرادت فيها فرنسا فرض إرادتها على الكيفية التي يجب أن يظهر فيها جسم المرأة على السواحل الفرنسية التي تستخدم للاستجمام.
صار لي نحو أسبوعين وأنا أتابع من كثب الزوبعة التي أثيرت حول البوركيني Burkini، لباس السباحة المحتشم الذي ترتديه بعض النساء المسلمات لغرض السباحة مع الآخرين في السواحل الفرنسية.
لقد تمادى الخطاب الفرنسي وغيره في الانتقاص من الآخر إلى درجة ليس فقط التحكم بألفاظه وما يمكن له أن يقوله، بل وصل إلى التحكم في جسمه وجسده وما يحق له أن يظهره للعامة وما يخفيه.
ولكن لننظر لوهلة قبل سرد بعض الردود على الديماغوجيا هذه. اليوم لدينا في اللغة والإعلام مفردات رائجة كثيرة ومع تحفظ بعضنا نجبر على قبولها وتداولها لفظا وممارسة، منها:pubikin, half-kini, tankini, bikin, monokini وإلى آخره مما تراه الثقافة الغربية جزءا من الحضارة والمدنية وما تراه ثقافات أخرى جزءا من الابتذال والتسيب.
وما أن ظهر burkini حتى ثار البعض رغم أن فكرة الاختيار وفكرة حرية المرء بالتصرف بجسده حسب المفهوم الغربي هي ذاتها: لك الحق أن تظهر منه ما تراه مناسبا ولك الحق أن تخفي منه ما تراه مناسبا؛ ولكن الشطر الثاني من المعادلة غير مقبول لأن أصحابه مسلمون.
الديماغوجيا في اللغة والإعلام لها حد كما قلنا. وهذه المرة انقلبت على أصحابها وصارت وبالا.
أول من انتقد الموقف من لباس السباحة الإسلامي المحتشم كانت دولة الفاتيكان "مؤسسة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية"، أكبر الكنائس في العالم.
وتبعتها مؤسسات ودول أخرى في أوروبا والأمريكتين وعلى لسان بعض زعمائها.
وأتى نقد لاذع للموقف من لباس السباحة الإسلامي من كبريات الوسائل الإعلامية في العالم وعلى رأسها جريدة "نيويورك تايمز" التي هاجمت الموقف الفرنسي بشدة في افتتاحية رئيسة واصفة إياه بـ "المخجل" والمثير "للسخرية والهزل".
ولكن أكثر ما شدني هو تقاطر الطلبات على الشركة المصنعة لهذا اللباس ومن قبل النساء غير المسلمات لأنهن رأين فيه ما يحفظ لهن حرية الاختيار وكذلك ما أتاه من مديح من بعض الإخصائيين أنه يقي الجسم أيضا من سرطان الجلد نتيجة التعرض للشمس.
علينا أن نفهم، لا بل أن نعري طبيعة الهيمنة والسطوة التي يمارسها البعض للتحكم فينا. وما البوركيني إلا نموذج واحد منها.
علينا أيضا أن نتحرر، والتحرر ليس بقبول ما يفرض علينا من النخب من خلال خطابها الديماغوجي وممارساتها، بل من خلال رفضه ومقاومته.
والطريق إلى التحرر يبدأ من اللغة التي نستخدمها لا سيما في وصف المختلف عنا ثقافة ودينا ولونا ومذهبا وغيره.