رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


أمريكا لم تعد العالم الجديد «2»

تطرقت في مقال الأسبوع الماضي إلى أمريكا القرن الـ 21 وبينت التغيير الذي لاحظته عند زيارتي الأخيرة لهذه الإمبراطورية. والتغيير سمة كونية وظاهرة طبيعية ولا يبقى على حال إلا رب الأرض والسموات العلا. إلا أن ما أتحدث عنه ليس تغييرا بقدر ما هو انحراف في العقيدة الجوهرية لهذه الدولة العظمى. فكل أمة لها رسالة (عقيدة) تجمع شتاتها وتميزها عن غيرها، ولو تغيرت العقيدة تغير مسار الدولة بالكامل.
وقد عرضت في مقال الأسبوع الماضي ملامح أمريكا الجديدة التي رأيتها مثل التغير الذي طرأ على التركيبة السكانية للولايات المتحدة من الزيادة النسبية للأمريكيين السود وعدم رغبة المهاجرين الجدد في الاندماج مع الثقافة الأمريكية التي لم تعد تستهويهم. كما عرجت على الوضع الاقتصادي للأفراد وكيف يظهر عليهم الثراء المزيف نتيجة تورطهم في الديون ما اضطرهم إلى طلب تدخل مؤسسات الدولة لحمايتهم من المصارف والمؤسسات المالية وهذا يتنافى مع مبادئ النظرية الرأسمالية التي بنيت عليها أمريكا.
الظاهرة الجوهرية الثالثة للتغير في الثقافة الأمريكية تتمثل في تناقص الحاجة الملحة للغة الإنجليزية لغة البلد الرسمية. فقد كان في السابق الذي لا يتحدث الإنجليزية يعاني صعوبة بالغة في تسيير حياته اليومية وإنهاء متطلباته المعيشية من استئجار منزل والتبضع والمواصلات ومراجعة المستشفيات وغيرها فيحتم عليه طالما أراد العيش في هذه البيئة أن يتحدث لغتهم. أما الآن فليس هناك ضرورة ملحة للتحدث بالإنجليزية في أمريكا سوى من أراد أن يلتحق بالجامعات. فلغات العالم الحية موجودة في كل مكان منذ وصول المهاجر أرض المطار وتسير معه أينما ذهب ولو بقي هناك لعقود. فقد أصبح من الممكن أن تتعايش وتتنقل بين الولايات وتقضي احتياجاتك وتبقى في أمريكا سنين عددا دون أن تتحدث الإنجليزية لأنه يمكنك أن تفعل كل شيء بلغتك الأم.
أمريكا الجديدة تضم عديدا من الثقافات بعضها لم ينصهر في الثقافة الأم، ومن ضمن مكونات الثقافة اللغة فمن الطبيعي أن يكون فيها عدة لغات، وأتوقع لو استمر الوضع بهذا الحال فلن تبقى الإنجليزية هي اللغة الأولى في البلاد بل قد تكون الثانية أو الثالثة.
من الظواهر كذلك التي لاحظتها ولاحظها المخضرمون أمثالي الذين عاشوا عهدين مختلفين في العالم الجديد اليد اللينة لنظام المرور. فلم نعد نرى النظام الصارم الذي يأخذ الأمر بجدية مفرطة ويترصد العابثين بالأرواح والممتلكات. فقد عهدنا أن كل شيء يمكن التفاوض حوله إلا الإخلال بحركة المرور فهي خط أحمر لدرجة أن عدم الالتزام بتعليمات المرور في تلك الحقبة يشابه إلى حد ما التورط في عمل إرهابي في الألفية الجديدة. أما الآن فنظام المرور في الولايات الأمريكية لا يختلف كثيرا عما هو موجود في الشرق، بل إن أنظمة المرور في بعض الدول النامية أشد صرامة من نظام المرور الحالي في أمريكا. بطبيعة الحال لم يصل بعد إلى الفوضى المرورية التي تعيشها بلادنا ولكننا نحن نتقدم ولو أنه تقدم بطيء وهم يتراخون في هذا الجانب. من الطبيعي جدا أن ترى في أمريكا هذه الأيام الكثيرين الذين لا يلتزمون بربط حزام الأمان، كما ترى الأطفال يصولون ويجولون داخل المركبة، وسلوك كهذا كان يعرض صاحبه إلى المحاكمة وقد تسحب رخصة القيادة منه ويعد غير مؤهل للقيادة. وقد وصلت الفوضى في مجال قيادة السيارات في بعض الولايات الأمريكية إلى أن هناك من يقود المركبات دون رخصة قيادة.
والآن نريد أن نسلط الضوء على الأسباب التي أدت إلى انحراف أمة عظمى عن مسارها وبدأت تفقد هويتها. أرى أن هناك سببين رئيسين الأول سياسي والثاني اقتصادي. فالمبالغة في محاربة ما أطلقت عليه أمريكا "الإرهاب" على حساب اهتمامها بالبيئة الداخلية تعد سببا جوهريا - من وجهة نظري. فمنذ بداية الألفية الجديدة ليس لأمريكا هدف إلا محاربة ما أسمته الإرهاب فخاضت حروبا واصطنعت كوارث وزجت بجيوشها في مناطق ودول ملتهبة بمبرر ودون مبرر. والتاريخ يذكرنا أن القاسم المشترك لانهيار الإمبراطوريات هو التدخل في بلاد بعيدة واستعراض القوة أمام الأقليات والدويلات.
يقول روبرت كيوسكي عندما ناقش اقتصاديات الحرب "تنتهي الإمبراطوريات عندما تقاتل في معارك كثيرة وفي أماكن بعيدة". فبريطانيا العظمى انتهت بسبب حروبها في أماكن بعيدة من العالم، وقبلها انهارت الإمبراطورية الرومانية عندما بدأ الرومان في تبديد أموالهم بأيديهم بسبب القتال في أراض بعيدة.
أما الأسباب الاقتصادية لانحرافة أمريكا الجديدة عن مسارها أراها كثيرة ومتعددة من ضمنها الغزو التجاري على هيئة صادرات واستثمار أجنبي من دول الشرق الأقصى خصوصا اليابان وكوريا والصين. فهناك منتجات أجنبية كالسيارات والملابس وبعض الخدمات كالطعام وغيره سيطرت على الأسواق الأمريكية ولم يبق للشركات الأمريكية إلا الإفلاس أو الرحيل وستصبح أمريكا ـــ والله أعلم ـــ عما قريب دولة استهلاكية مثل دولنا وأظنها الآن تشتري أكثر مما تبيع وهذا يعني أن الواردات أكثر من الصادرات.
كما أن فك ارتباط الدولار بالذهب الذي قام به الرئيس الأمريكي رتشارد نيكسون دون الرجوع إلى الكونجرس عام 1971 له دور في هذا الضياع الذي تعيشه أمريكا وهي التي صنعته لنفسها وأجبرت العالم على السير في ركابها وهي تدفع الثمن الآن. فنتيجة لقلة الإنتاج الحقيقي للدولة وعدم ارتباط الدولار بالذهب تقوم بطباعة المزيد من الأوراق (دولارات) وهذا هو سبب التضخم الذي خرج عن السيطرة. البعض ومن الأمريكان أنفسهم يتهكمون على البنك الفيدرالي الأمريكي فيقولون إن هذا ليس مصرفا بل دار للطباعة لا أقل ولا أكثر لأنه لا يمارس دوره كمؤسسة مالية.
هذا ما رأيته في أمريكا الجديدة مقارنة بما كانت عليه في نهاية القرن الماضي وهذه أهم أسباب هذا التغير من وجهة نظري وهي مجرد قراءات وتحليلات لعهدين متقاربين ولكنهما مختلفان.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي