بترولنا ومزاعمهم .. ما هذه العقلية؟
مع متابعاتي لما يكتب عن بترولنا، خليجيا وعالميا، تصدمني أحيانا بعض الأفكار والرؤى التي تقال عنه وليس لها قبول من جانبنا. وأخص بها تلك الاستنتاجات التي يروج لها بعض المحللين والكتاب، بناء على رؤية لا تستند إلى أساس علمي متين ولا دراسات موثوقة. فقول البعض إن السعودية، ذات المخزون الكبير من البترول - كما يصفونها، وحسب رؤيتهم وظنهم - تحاول جادة في التخلص من بترولها وبيعه بأي ثمن، خوفا من أن يفقد قيمته لوفرة في المعروض أو استبداله بمصادر أخرى جديدة. وهو أمر لا يؤيده الواقع ولا المستقبل المنظور ولا حتى يقبله العقل. نعم، نحن ننتج كميات أكثر مما يجب، والأحرى بنا أن نضع سياسة خفض الإنتاج في بالنا من أجل إطالة عمر الحقول ورغبة في رفع الأسعار إلى مستوى يتناسب مع أهمية هذا المصدر النفيس والقابل للنضوب. وهذا يتطلب منا نظرة إيجابية نحو بقائه أطول زمن ممكن من أجل الأجيال القادمة.
وآخر مقال قرأته حول الموضوع لكاتب غربي ترجمه صحافي خليجي ونشر في إحدى الصحف الخليجية، تحت عنوان "لماذا ترغب السعودية في ضخ مزيد من النفط"؟ ومقال مشابه ظهر أخيرا في "النيو يورك تايمز" يحمل المعنى نفسه. ولن أعلق على كثير مما جاء في المقالين من مواقف للسعودية، حسب زعم الكاتبين، لا تمت للواقع بصلة. وقد ذكروا ضمن ما كتب، خطر احتباس البترول في مكامنه، ويقصدون بذلك الكميات التي لم تصلها بعد يد الإنتاج، تثير فزع السعوديين. وهي عبارة بحد ذاتها مفزعة. وكأن أكبر همنا وقمة منانا، في نظرهم، هو القضاء على بترولنا بأسرع ما يمكن. يا سبحان الله، ما هذه العقلية وغرابة الاستنتاج؟ يزعمون أننا نخشى الاستغناء عن البترول أو انخفاض الطلب عليه، فنطبق عليه المثل القائل، "بيدي لا بيد عمرو"! أو لو كان عندنا قطيع من الغنم تهدده الذئاب، هل نحاول التخلص منه بذبحه؟ وذكر أحدهم مثالا على ذلك ما يتردد في الإعلام من أن الطلب العالمي على البترول سيصل ذروته خلال أقل من عقدين من الزمن. وربط هذا التنبؤ بمتطلبات حماية المناخ من التلوث الهيدروكربوني. مع أن موضوع مؤثرات المناخ عليه اختلافات أكثر من الاتفاق حولها. ومن جهة أخرى، فهناك احتمال أكبر لنضوب نسبة كبيرة من البترول التقليدي الرخيص قبل أن يصل الطلب العالمي على المشتقات البترولية ذروته، ناهيك عن أن المهتمين بشؤون المناخ يتحدثون عن مؤثرات المناخ وليس لديهم حلول عملية. وعلى كل فلنا مواقف مشرفة ومنطقية وإيجابية حول موضوع المناخ وتخفيف تأثير احتراق المصادر الهيدروكربونية. واتفاق الدول على ضرورة اتخاذ إجراءات احترازية لا يعني أنهم متفقون على تنفيذ عوامل الحلول. من الذي سيوافق على تجميد إنتاج البترول وتركه - كما يقولون - في مكامنه تحت الأرض والعالم متعطش للطاقة؟ فالأولى أن يكون اهتمامهم منصبا نحو إيجاد بدائل نظيفة ورخيصة ومتوافرة بكميات كبيرة لتكون بديلا للبترول، بدلا من التركيز على أمر غير قابل للتطبيق. وهو ليس بالأمر السهل أو المتيسر. وإلا فستقف عجلة التطور، لأن البترول يعد أحد شرايين الحياة، وهو ما لا يقبله عاقل. ومع ذلك فهناك طرق علمية إذا طبقت رغم تكلفتها الكبيرة فربما تساعد على تخفيف الانبعاثات الضارة التي تنتج من احتراق المواد الهيدروكربونية. والبحوث في هذا المجال قائمة على قدم وساق. ولدينا في المملكة دراسات وبحوث علمية متقدمة على كثير من الدول التي لديها اهتمام بالموضوع. وقد أشار، ضمنا، إلى ذلك وزير الطاقة والصناعة والثروة المعدنية في إحدى كلماته الأخيرة في مدينة هيوستن الأمريكية.
ونود أن نذكر أن البترول التقليدي، أو ما يطلق عليه البترول الرخيص محدود الكمية، وهو ينضب ونحن نتحدث. هذا ينطبق على معظم نفوط منطقة الشرق الأوسط. ونخشى أن يتركنا البترول قبل أن نتركه. فما هي إلا عقود قليلة ويتحول من تقليدي - حسب تعريفنا - إلى غير تقليدي. أي من مصدر غزير الإنتاج ومتدني التكلفة إلى مصدر شحيح الإنتاج ومرتفع التكلفة. فهو يخضع لقوانين الطبيعة وسنن الحياة. وأوضح دليل أن آبارنا كانت تنتج كميات كبيرة من البترول بقوتها الذاتية. أما اليوم فأكثر الآبار تنتج بمساعدة المضخات الغطاسة، وبقية الآبار في الطريق إلى هذا الوضع، إضافة إلى ارتفاع ملموس ومتواصل في إنتاج الماء المصاحب الذي ترتفع نسبته سنويا. أما البترول غير التقليدي المكلف، ومنه البترول الصخري والرمال البترولية، وأنواع أخرى مرتفعة التكاليف لا مجال للحديث عنها في هذا المقام، فجميعها سيأتي دورها مع ارتفاع الأسعار.
والحل الذي سيطفئ نار التخمينات من وجهة نظري هو التوازن في الإنتاج إلى مستوى يفي بجميع متطلبات حياتنا، وبما يحقق المحافظة على حصصنا في الأسواق، وفي الوقت نفسه، يحافظ على دوام ثروتنا ويقلل من تكلفة إنتاجها. لقد أعيتنا الحيل في تنويع دخلنا منذ أن عرفنا البترول، والزمن لا يرحم. فخذ اللهم بأيدينا ويسر أمر تنفيذ "رؤيتنا" الجادة والطموحة رغم صعوبة وضخامة التحديات.