لماذا فقد الخطاب الديني تأثيره؟ «1»

ربما لم يدرك المتصدون للخطابة الدينية بعد، أن أدوات الزمان قد تبدلت، وتحولت في غير رجعة، إلى لغة متباعدة كل البعد عن لغتهم، في اختيارها، ووعيها.. وفيما تدرك وتصطفي وتختار!
لم يعد الأداء الخطابي هو السبب المنفرد لضعف التأثير في مواطن وعجزه عن التأثير في مواطن أخرى كثيرة، رغم المساحة الواسعة المتاحة له، والقدرات التي لا يملكها غيره، ورغم ذلك تقدم خصومه عليه كثيرا وتوغلوا في أعماق مجتمعه، إنسانه، وأجياله الناشئة، المتوثبة للتمرد، والخروج عن الخطاب المألوف الرتيب، المتصف بالجمود والتكرار والدوران في دوائر محدودة، تنتهي للنتائج ذاتها في كل مرة، وتسهب في صفات لا يحملها إلا ملك أو نبي، ما تجعله مثاليا أكثر مما يقدر عليه أحد، ومتعاليا أكبر من أن يقترب منه أحد.
هناك جملة أسباب جعلت الخطاب الديني يتراجع تأثيره في المحتوى والمضمون وهذا حديث ممتد طويل، لا تستوعبه مقالة ولا تحتويه مساحة نافذة فكرية في صحيفة يومية، هي بحاجة إلى تحليل فلسفي في تطلب الفهم المجرد عن العاطفة للواقع، وفي القدرة على نقده، وفي الوقوف عند (العلة) والسبب ثم المآل والنتيجة الأخيرة.. التي جعلت من مافيا القتل، ومن المنظمات السياسية الدينية قادرة على (التأثير) وعلى اختطاف عدد غير قليل من أبناء المسلمين، واستعمالهم كأداة عمياء، وسلالم بلا ثمن، ودون أجرة، للوصول إلى السلطة، أو لنيل مكاسب سياسية ومالية.
إن كل عيب نراه يسيرا علينا ستره، وكل ذنب نعترف به، يتقبل الله التوبة منه، وكل خطأ نعرفه، يهدينا الله السبيل لعدم العودة إليه، وهذا هو الطريق الذي غاب عن الخطاب الديني المعاصر؛ فتردى في رؤية الذات وفي العصمة المستترة، وكراهية النقد، والتعالي على الناقد ولو كان يحمل في قلبه، أطهر النوايا، وأنبل المقاصد، غاب النقد الذاتي للخطاب الديني، توقف في زمن قصي، بعيد عند حالة (التوحد، والحلول) مع العقيدة ذاتها، فكأن الناقد للخطاب الديني هو ناقد للعقيدة ذاتها، ولم يتم التعامل معهما بوصفهما شيئين مختلفين، أحدهما وحي يوحى من الله معصوم طاهر وهي العقيدة، والآخر بشري فيه كل صفات العجز البشري المحدود القدرة والعلم والمعرفة، حتى باتت كراهية النقد تصور للعامة، أن نقد الخطاب الديني في أدواته، ومستوى رجاله، واختيار مفرداته، وموضوعاته، هو نقد للدين نفسه، وللحقيقة المجردة نفسها، وللعقيدة فيما تمثله من عصمة وطهارة ووحي منزل من الله.
لقد كان هذا أسوأ الاختيارات التي اختارها الخطاب الديني المعاصر؛ فقد كان من اليسير في مرحلة مبكرة معالجة كثير من صفات الضعف، وهي بعد في مرحلة التكوين، وفي أول النشأة، والظهور.. واستبد الجمود، وطغى على المشهد، وحدة النمط، والمضمون، والعجز عن تقديم رؤى تستوعب التنوع، وتجمع شتات البشرية على وحدتها الوجودية الجامعة، المتمثلة في رحمانية الله ورحيميته.
لقد عجز الإسلاميون عجزا ظاهرا بينا، في تقبل (النقد) والانفتاح على شجاعة التقييم وتحليل أدوات العرض، ومراجعة مفردات المضمون لرسالتهم الفكرية والوعظية.. وكان هذا من أهم الأسباب لتراجعهم وتقدم غيرهم عليهم. وللحديث بقية في المقال القادم ـــ إن شاء الله تعالى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي