الأهداف النبيلة وصنع الفارق
«سأقضي على المتسولين لتصبح مدينتا أكثر تألقا ويعيش فيها الجميع تحت ظل القيم الإنسانية والمعاني الحضارية التي يستحقها مواطنوها». كانت هذه أولى عباراته في منصبه الجديد، ولكن أفعاله ــــ تحت برامجه للقضاء على المتسولين ــــ بدأت بسجنهم وإبعادهم للمدن الأخرى. لم يحسن من حياة أحد ولم يتفاد وجود متسول واحد بحصر أسباب تسولهم ومعالجتها، بل أغضب زملاءه في البلديات الأخرى ونالته دعاوى المساكين. كان هدفه نبيلا ولكن فعله قبيح، ربما يستحق العقاب على سوء معالجته للقضية المهمة.
هناك أيضا من يؤجج بسبب سوء إدارته مشاعر استعداء التشريعات الجديدة المرتبطة بمشاريع أخذت سنوات تحت الإعداد والتخطيط واستهلكت مليارات من التكلفة، سواء كانت أدوات جديدة لتفاعل الفرد مع مجتمعه ـــ اقتصاديا أو ثقافيا ــــ أو تمثل جزاءات مقننة لضبط السلوكيات. ليتفق بعد التدشين السيئ وبشكل عجيب جمع من المتعلمين والمثقفين على تواضع الحل الجديد ويتأثر غيرهم ويتأخر التطبيق ويخسر الجميع المليارات مما يعوض، وغيرها من الوقت الذي لا يعوض بسبب الانتظار الذي لم يكن ضروريا. الأهداف النبيلة لا تحمي من يسعى خلفها بأسلوب سيئ؛ ولا تحمي أيضا من ينتظر ويستحق الحصول على نتائج.
آخر يود معالجة مشكلة الأحياء العشوائية بنموذج ربحي طموح لم يثبت نجاحه على الإطلاق. هدفه نبيل ولكن اللحظة التي يفقد فيها الثقة لا يمكن أن تعوض ولو بألف جلسة من النقاشات والمفاوضات. الهدف النبيل دون علاقة تسودها الثقة لا يصنع النتائج، سيحصل القبول على مضض وستتحقق النتائج - إن تحققت - أيضا على مضض.
حتى على المستوى الشخصي لا تكفي الأهداف النبيلة لصنع الفارق. لا بد من اقتران الخطة الإيجابية النبيلة بالفعل الإيجابي السليم. كما أن تضييع الهدف النبيل وحضور الفعل الجيد يجعل المواقف بلا معان ولا دوام، كذلك العكس تماما. تضييع الفعل الجيد وحضور الهدف النبيل هو مجرد انتظار لتحقق أمنيات لن تحصل أو تبرير لتخاذل حقيقي واقع. لهذا يضبط الأفراد هذه المشكلة بالتواصل المستمر والرفع الدائم للخطط والنتائج. الفرد هنا يحب ويبذل، ينوي ويفعل، يعلن ويلتزم. النية الجيدة لا تحمي الكسالى من التخاذل، وكذلك الأهداف النبيلة.
تسري هذه القاعدة حتى عندما يتغير ويكبر حجم المسؤولية: فرد، أسرة أو مدرسة، فريق أو مجتمع. التواصل المستمر أثناء مختلف مراحل الأداء أساس لهذه القاعدة، مع الحرص على الفعل والالتزام بمستوى الرؤية نفسه التي تسعى لتحقيقها الأهداف النبيلة. لا أعتقد أن أي مسؤول يخضع للمحاسبة دنيويا أو أخرويا ستحميه عبارات مثل: "كان هدفي نبيلا" أو "اجتهدت وأخطأت"، خصوصا عندما يثبت أن هذا المسوؤل امتلك فرص التعلم والتقويم والتفاعل ولم يستفد منها.
المجتهد الحقيقي يعمل في مسار يحدد به إطار الاجتهاد منذ البداية؛ فالاجتهاد افتراض معلن وليس تبريرا لاحقا. قلة المعرفة المتاحة تفتح باب الاجتهاد في بعض القضايا. ولكن مع الأسف يظل اليوم هذا الباب مفتوحا في أمور تعتبر بدهية في إدارة التغيير والمشاريع والجماهير، خصوصا مع رواج أفضل الممارسات وتدني تكلفة الحصول على المعلومة الملائمة في وقت سريع. كان "يظن" أن معرفته هي أفضل الموجود واختياراته سليمة وتفاعله كافٍ! ولا يقبل النقاش في ذلك. لو كان "يعرف" ويخطط على بينة ويعمل بجد وانفتاحية، لما اضطر لتحسين النتائج المتواضعة بإثبات نبل أهدافه. هناك فرق بين المسائل التي يتاح فيها الاجتهاد والخطأ وبين المسؤوليات التي تتطلب القراءة والاستشارة والإدارة ثم العمل الحقيقي والتواصل المستمر، في الأخيرة لا ينتج الخطأ إلا بسبب ظروف قاهرة أو بسبب إهمال وتقصير يستوجب العقاب، عندها لا تكفي الأهداف النبيلة.