تنمية القدرات في إفريقيا .. والاستعانة بالخبرات
إذا كان هناك أمر يمكن أن يتفق عليه الاقتصاديون فهو أهمية الأرقام. فمن دون البيانات الجيدة، يصعب تقييم أداء الاقتصاد ورسم سياسات ذكية تساعد على تحسين حياة المواطنين.
ومنذ مدة تتجاوز الـ 20عاما بقليل، تحولت موزمبيق الواقعة في الجنوب الإفريقي من الافتقار لأي حسابات قومية أو مؤشر لأسعار المستهلكين إلى إنشاء واحد من الأجهزة الإحصائية الرائدة في إفريقيا جنوب الصحراء.
وقد شهدت بنفسي ما حققته موزمبيق في جمع البيانات أثناء رحلتي إلى إفريقيا أخيرا، التي كانت الأولى بصفتي ممثلا رسميا للصندوق. وهناك التقيت بالسيدة إيسالتينا لوكاس، رئيس معهد الإحصاء الموزمبيقي آنذاك (ونائب وزير الاقتصاد والمالية حاليا)، التي أخبرتني عن الخطوات الرائعة التي قطعتها الحكومة في إعداد أهم الإحصاءات الاقتصادية ــــ ما يرجع جزء من الفضل فيه إلى الصندوق. وعلى مدار زيارتي التي استغرقت عشرة أيام في أوائل آذار (مارس)، رأيت عديدا من الأمثلة الأخرى لما يقوم به الصندوق من خلال المساعدة الفنية والتدريب ــــ أو ما نسميه مجتمعا "بناء القدرات" ــــ لمعاونة صناع السياسات في إفريقيا جنوب الصحراء على امتلاك زمام مستقبلهم الاقتصادي.
وفي تنزانيا، على سبيل المثال، شهدت حلقة تطبيقية اشترك في إقامتها الصندوق مع البنك المركزي، حيث ناقش المسؤولون من مختلف أنحاء المنطقة تجارب بلدانهم في توسيع فرص الحصول على التمويل وتبادلوا الآراء حول كيفية التعامل مع جوانب الضعف المالية التي بدأت تظهر نتيجة لذلك. وأكد كثير من المشاركين أهمية هذا النوع من تبادل الخبرات ــــ والمعروف باسم "التعلم من الأقران" ــــ في بناء القدرات. وقد أصبحنا نسمع بصورة متزايدة عن الاستفادة الكبيرة التي تتحقق في تنمية القدرات من خلال تبادل المعرفة خارج الدورات الرسمية. وعلى ذلك نواصل استكشاف السبل الممكنة لتعزيز سبل التعلم والدعم بين الأقران، سواء بصفة شخصية أو من خلال شبكة الإنترنت. فبفضل تلك المنابر، لا تقتصر استفادة صناع السياسات على تبادل الخبرات فيما يواجهون من تحديات متشابهة، بل إنهم يتمكنون أيضا من تحديد أهداف مشتركة لسياساتهم.
وقد بدأت هذه الجهود تؤتي ثمارها بالفعل. لنأخذ السنغال، على سبيل المثال، حيث يستخدم بنجاح أسلوب التعلم المتبادل بين الأقران لتنفيذ استراتيجية السنغال الجديدة للتنمية التي تستهدف تحويل البلاد إلى أحد اقتصادات السوق الصاعدة في غضون العقدين القادمين. وتستفيد السنغال من تجربة صناع السياسات في جمهورية الرأس الأخضر، وموريشيوس، وسيشل، لاستحداث أرقام التعريف الضريبي، وإنشاء مكاتب الاستعلام الائتماني، وتنمية السياحة، وإقامة مناطق اقتصادية خاصة.
رأيت أيضا كيف تمثل تنمية القدرات جزءا لا يتجزأ من حوارنا الجاري مع البلدان الأعضاء. فحين يضع الصندوق توصيات معينة في سياق رقابته المعتادة لاقتصادات البلدان، لا يكون كافيا أن نقدم المشورة بشأن السياسات أو نعد تقريرا فنيا يتسلمه البلد العضو؛ إنما ينبغي أن نعمل بشكل مباشر مع المسؤولين لتسليحهم بالأدوات العملية التي ينفذون بها تلك المشورة.
فعلى سبيل المثال، تتعاون فِرق الصندوق القطْرية ومختصو المالية العامة بصورة وثيقة عند إسداء المشورة حول كيفية توسيع القاعدة الضريبية أو توجيه الإنفاق بصورة أكثر إنتاجية. ونحن بصدد تعزيز نظمنا القائمة لإدارة المعرفة لكي تكون المعرفة المتخصصة في متناول الجميع على مستوى الصندوق.
ولا تنطبق صيغة تنمية القدرات نفسها على كل البلدان – إذ يتعين تصميمها حسب احتياجات كل بلد عضو ودمجها في استراتيجيات التنمية. ففي إفريقيا، على غرار بلدان العالم الأخرى، نرتكز في تنمية القدرات على الواقع الاقتصادي في كل بلد ــــ وهو ما يتم بسهولة أكبر حين يكون الصندوق موجودا على الأرض في المراكز ذات المقار الإقليمية.
فمثلا، في مركز التدريب لمصلحة إفريقيا الذي يقع مقره في موريشيوس، شاركت في مؤتمر إقليمي حول مستقبل التكامل النقدي في إفريقيا، وهو موضوع بالغ الأهمية في وقت تضع فيه المنطقة خططا لتعميق التكامل النقدي، بما في ذلك إنشاء اتحاد نقدي لبلدان شرق إفريقيا.
وإضافة إلى تطويع عملية تنمية القدرات لما تقتضيه ظروف البلدان، ينبغي تطويعها لمقتضيات الظروف الاقتصادية العالمية أيضا. ففي عام 2014، شارك الصندوق في رعاية مؤتمر كبير في موزمبيق حول موضوع "نهضة إفريقيا". وقد أقررنا في ذلك الوقت بأنه رغم نعمة الموارد الطبيعية التي يتمتع بها الكثير من البلدان الإفريقية، فإن هذه النعمة يمكن أن تتحول بسهولة إلى نقمة. وبالتالي عملنا مع الحكومات للبدء في وضع أطر قوية للمالية العامة من أجل إدارة الموارد الطبيعية لمصلحة الأجيال الحالية والقادمة.
وسرعان ما مرت سنتان ورأى المسؤولون الذين قابلتهم آنذاك مدى الحاجة الآنية الملحة لتقوية أطر المالية العامة وهم يسعون جاهدين للتعامل مع آثار الهبوط الحاد لأسعار النفط والسلع الأولية، وهو تطور لم يستشرف حدوثه إلا القليلون. ويؤكد هذا ضرورة بناء الهوامش الوقائية والعمل على تنمية القدرات ـــ في أوقات اليسر والعسر ــــ لكي تتصدى البلدان للصدمات المحتملة.
وسيواصل الصندوق تعاونه الوثيق، ليس فقط مع البلدان المتلقية وإنما أيضا مع الشركاء الكثر حول العالم الذين يقدمون دعما ماليا يتيح لنا إسداء المشورة بشأن تنمية القدرات.
وبينما أتأمل ما دار في رحلتي الأولى إلى إفريقيا كممثل للصندوق، أجد شيئا واحدا لا يغادر ذهني، وهو وجوه الناس.
ففي تنزانيا، زرت دار أيتام "واتولو ويتو" (أي "أبناؤنا" باللغة السواحيلية). وعندما وصلت، كان الأطفال يرددون أغنية أعدوها من أجلي. وكان بعد كل الاجتماعات التي ناقشت فيها الخيارات الاقتصادية المعقدة مع المسؤولين، كان هذا المشهد تذكرة طيبة بالغرض الحقيقي من وراء عملنا. فما ننشده هو أن يحيا هؤلاء الأطفال حياة أفضل ـــ وتنمية القدرات يمكن أن تساعدنا في تحقيق هذا الهدف.
*نائب مدير عام صندوق النقد