قوت الأموات
عندما تمر من شارع لعبت فيه مع رفقاء الطفولة أو كانت تقبع في إحدى زواياه مدرستك القديمة تسمع صيحات أصدقائك وضحكاتهم ترن في أذنيك، أو ساقتك قدماك يوما إلى منزلك القديم وشممت عبق الماضي ينبعث من غرفة سترتسم على وجهك ابتسامة ساحرة لا يعرف سرها إلا من عانى الحنين لماضيه الجميل ولدفاتره القديمة ولشخبطات أقرانه ولصوت أبي الجيران وهو يوبخه على تصرف ما! أو جارتهم وهي تنتقد قهوة أخته ورغم ذلك تغمره السعادة ويتمنى لو يعود به الزمن لتلك الأزقة القديمة، فهل عانيتم الحنين؟
تلك الحالة العاطفية التي نصنعها نحن ونشعر بها في أوقات وأماكن معينة أو ما يسمى علميا بـ"النوستالجيا" يتم فيها استرجاع مشاعر عابرة ولحظات سعيدة من الذاكرة وطرد جميع اللحظات السلبية (الحنين إلى الماضي الجميل) إنها ليست حالة نادرة فـ 80 في المائة من البشر تصيبهم النوستالجيا أسبوعيا، انظر إلى حالك حين تشاهد الأفلام والمسلسلات القديمة التي كانت تحمل قيمة بشوارعها شبه الخالية والنظيفة والحياة التي تعتبر مثالية بالنسبة لما نعيشه اليوم أبسطها التفاف الأسرة حول مائدة الطعام خلافا لما نشاهده اليوم من مسلسلات وأفلام العري، لم نعد قادرين حتى على مشاهدة مسلسل في جلسه عائلية لأنك لا تضمن ما سيحمل لك المشهد من ابتذال، فهل فعلا كان الماضي جميلا ومثاليا؟
أظن أننا لن نجد إجابة شافية لهذا السؤال وستحدد حالتنا المزاجية الإجابة عنه ولكن أعتقد أن ما نعانيه أحيانا من الحنين للماضي هو ردة فعل لما نعيشه اليوم فالشعور بالوحدة والملل وجفوة الأهل والأصدقاء يدفعنا إلى الهروب للماضي!!
يقول الباحثون: إن "النوستالجيا" هي آلية دفاع يستخدمها العقل لرفع المزاج وتحسين الحالة النفسية، وتكثر في حالات الملل أو الشعور بالوحدة وعند شعور الإنسان بأن حياته فقدت قيمتها وأصبحت تتغير للأسوأ، فيقوم العقل باستدعاء ذكريات الماضي الجميل بدفئها وعواطفها، فتعطيه تلك الذكريات الدفعة المعنوية التي يحتاج إليها للتعامل مع التحديات التي تواجهه وتدفعه للتواصل مع الأهل والأصدقاء القدامى وتتحسن حالته النفسية.
فالنوستالجيا من وجهة نظري علاج ومورد نفسي نستمد منه القوة حين يخوننا حاضرنا فيشعر الشخص بقيمته ويبتعد عنه شبح الاكتئاب والحزن حين يتذكر ماضيه وإنجازاته القديمة خصوصا في مرحلة الشيخوخة ويقال: إن الماضي هو "قوت الأموات"، تستعيد به حياتك ولكن قد ينغمس البعض في ماضيه وينعزل عن حاضره فيتحول الدواء إلى داء لذا لنتجرع منه جرعات صغيرة بين فترة وأخرى نجدد بها حياتنا ولا نلغي حاضرنا!!