خلل القبول في الجامعات .. قبول أم حماية الجامعة؟
في ظل التحولات الرئيسة التي تمر بها المملكة فإن المفاهيم التي تعمل بها الجامعات اليوم لابد أن تتغير لمواجهة تلك التحولات، لا مفر من ذلك. ولعل أكبر تحول علينا خوضه هو تغيير فلسفة خدمات التعليم التي تقدمها الجامعات للمجتمع، فالتعليم حتى الآن عبارة عن خدمات عامة اجتماعية مجانية تقدمها الحكومة "من خلال الجامعات" للمجتمع، والصورة الخلفية هي أن الحكومة تشتري خدمات التعليم من الجامعات "بدفع تكلفة التعليم من الموازنة العامة للدولة" وتقدمها مجانا للطلاب. وعلى هذا فلا حساب على محتسب، ولا خطأ على مجتهد. بمعنى أن قبول الطلاب في الجامعات "كما تفهمه الجامعات" هو هبة بدلا من أن يكون فعلا اقتصاديا يحكمه العرض والطلب، وبما أنه هبة فلابد أن يقبل الطالب (قسرا) ما تهب له الجامعات من مقعد وألا يرفض ذلك ولا يناقشه.
ولأن التعليم الجامعي هبة من الجامعة للمجتمع والحكومة هي التي تتحمل تكلفته، فالجامعات لا تهتم كثيرا بقراءة السوق ولا رغبات المجتمع، فبعض التخصصات قديمة لم تعد تناسب عصر تقنية المعلومات والتحولات الرئيسة في الأسواق، والاقتصاد وسلوك المجتمع في التعلم، أو حتى تقييمه للمتعلمين. ونظرا لهذه المعضلة الأساسية فإن الجامعات وأقسامها وأساتذتها يحافظون على تخصصاتهم بغض النظر عن مدى حاجة المجتمع إلى هذا التخصص، ليس هذا فحسب بل هناك إصرار على تقليص التخصصات المطلوبة أمام المجتمع بحجج مثل عدم توافر موارد. والصورة النهائية هي تخصصات مرغوبة جدا لا تطور الجامعات من قدراتها على الاستيعاب، بينما تسكن بجوارها تخصصات يفر منها المجتمع وتحتل مساحات وقاعات ضخمة، ويتم إجبار المجتمع للدراسة فيها لتبرر الجامعات ما تصرفه عليها من مبالغ كبيرة ومن تجهيزات ورواتب وخلافه، ولو أن الجامعات أخذت بمفهوم السوق لكان لزاما عليها أن تقلص من ميزانية التخصصات التي لم يعد المجتمع يرغب فيها "في شكلها الحالي"، ويتم توجيه الموارد نحو التخصصات التي عليها إقبال.
وكنتيجة عملية لهذا الأمر يحدث خلل خطير "ممنهج" في القبول وإدارة الموارد، فالجامعات تجبر الطلاب على الدخول في تخصصات لم تعد مرغوبة لديهم ولا مجال للاختيار أمامهم سوى اختيار شكلي لا يسمن ولا يغني شيئا، حيث تضع الجامعة الطلاب أمام شاشات صماء يتم ترتيب جميع الكليات على أساس الرغبة "كما تدعي الجامعات"، لكن الجامعة هي التي تنفذ؛ فإذا تحققت رغبتك فشكرا للجامعة، وإذا لم تتحقق وتم قبولك في تخصص بعيد جدا عن رغبتك؛ فاحمد الله على أن وجدت مكانا لم يجده غيرك، أما إذا لم تجد مكانا فلا تشتكِ حالك لأحد، تتذرع الجامعات بأن أعداد الطلاب في تزايد، وأن القبول جاء بناء على رغبة الطالب الذي وضع رغباته بنفسه ورتبها حسب وضعه، لكننا نعرف أن هذا الإجراء لحماية الجامعات من اللوم لا غير. والحقيقة أن الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي صورت لنا بجلاء حال الأسر والأهل وأبنائنا وأحلامهم تتحطم على صخور عمادات القبول وأجهزتها الصماء، وكما قلت ليس اكتشافا إذا قلنا إن الجامعات وبأساليب القبول الحالية تحمي نفسها فقط من لوم حماية تخصصاتها التي لم تعد تنافس في سوق القبول ليس إلا "فإذا ترك الأمر للمجتمع فلن يدخل هذه الكليات أحد، وسيصعب على الجامعة تبرير الصرف عليها". وهكذا يظهر جليا أن مفهوم القبول في الجامعات السعودية اليوم هو تعبئة التخصصات بالطلاب "لحماية قرارات الجامعة في توزيع الموارد" ودون نظرة جادة لمفهوم العرض والطلب، الذي قد يفرض تحولات لا تقبلها الجامعات ولا أساتذتها.
الأمر الثاني في خلل القبول الجامعي أن الجامعات تعمل على رفع الحرج عنها بابتكار مفهوم للعدالة غريب وغير منطقي، وذلك باستخدام رقم قياسي (لجميع الطلاب) وهو النسبة الموزونة كشرط للقبول، وفي نظري لا يمثل عدالة، بل هو خطأ غير مقبول في قياس قدرة الطلاب على النجاح في الجامعة، بل خطأ كبير في الجامعات التي ترعى العلم والبحث العلمي، وقد شرحت ذلك بالتفصيل في مقالة في "الاقتصادية" بعنوان "ألغاز التعليم الجامعي"، فقبول الطالب في الجامعة يعتمد على ما سميت " النسبة الموزونة" وهي خليط غريب وغير مفهوم من درجة اختبارات "قياس" ودرجات الثانوية، المشكلة في هذه الموزونة أنها لا تقيس شيئا، فهي مثل من يضع تفاحا مع طماطم مع بصل ثم يقول هذا موزون "موزون من ماذا ولماذا وما معناه، لا يهم ولا أحد يريد أن يهتم". الدرجة الموزونة التي ابتكرتها الجامعات هي أسلوب للفرار من مجابهة رغبة المجتمع الجارفة في تخصصات وفراره من تخصصات أخرى، أسلوب يرفع شعار العدالة، بينما هو بعيد عنها تماما. فجميع الأرقام غير متجانسة في رقم لا تعرف الجامعة معناه ثم تدعي أنه الأنسب للتعبير عن قدرة الطالب على النجاح العلمي في الجامعة. فتجميع كل هذه المقاييس في مقياس موزون "مجهول المعنى" لمجرد أنها أرقام لم أعرف لها نظيرا من قبل إلا في معايير القبول في الجامعات السعودية. وهنا الخلل الذي يحتاج إلى إصلاح عاجل.
لحل مشكلة القبول الحالية في الجامعات هناك مساران مزدوجان، الأول هو إلغاء النسبة الموزونة تماما، (مع بقاء مكوناتها) وألا يكون القبول في الجامعات عبارة عن ضربة حظ، بل هو جهد على الطالب أن يبذله من أجل إثبات رغبته. فعلى كل تخصص أن يحدد النسبة النوعية المطلوبة في الثانوية (جيد جدا مثلا) ويحدد درجة محددة في اختبارات القياس كل على حدة، ثم يمنح الطلاب بعد الثانوية مدة لا تقل عن أربع سنوات لمحاولة الحصول على النسب المطلوبة، وذلك بالسماح لهم بإعادة دخول الاختبارات ليس مرة بل مرات متعددة حتى يحصل على النسب المقبولة كل على حدة وليس كنسبة موزونة. ولا تغير الجامعة من هذه القياسات من سنة إلى أخرى لتغلق تخصصا ما ليحقق أساتذته احتكارات مهنية لهم. المسار الثاني هو إجبار الجامعات على قراءة الاقتصاد من خلال توجهات المجتمع نحو التخصصات، فالجامعات مصابة بمرض المجاملات، فلابد من إيقاف دعم تخصصات لا يريد أساتذتها بذل جهد كبير من أجل إعادة قراءة السوق وتعديل التخصص وفتح برامج تتناسب مع المجتمع وتوجهات الاقتصاد.