القوة الناعمة وشخصية المملكة .. شكرا خالد الفيصل
قبل نحو خمس سنوات من الآن، كنت في مهمة عمل في جدة، حين تلقيت دعوة من سوق عكاظ. كان اكتشافا بالنسبة لي زيارة المنطقة بالسيارة من جدة إلى الطائف. نحن المواطنين الذين لا نعرف غالبا شكل مدن المملكة غير الرئيسة، وتُختصر رحلات سفرنا في تذكرة سفر، نقطع بعدها طريق المطار إلى خارج الوطن. وبطبيعة الحال لا تجذب المدن القادمين إليها إلا لأسباب قليلة منها الأعمال أو النشاط الثقافي أو السياحي. والطائف هي «مكشات» السعوديين في المدن القريبة منها.. الجو البديع صيفا حين تتجاوز درجات حرارة المنطقتين الوسطى والشرقية وقد تصل في بعض أيام الصيف إلى 50 درجة مئوية.. ويبدأ موسم الهروب. الطائف؛ الجبال الشاهقة والطبيعة المميزة والقرود التي تتسابق لتناول المكسرات من السيارات المتوقفة على جوانب سفح الجبل. كتبت حينها رسالة إلى بعض الأصدقاء أقول: والله طبيعتنا في المملكة المترامية غنية جدا بين شواطئ وجبال ورمال.. إنها لا تختلف هنا عن بلاد الشام القريبة.. لكن الاختلاف ليس في الطبيعة الجغرافية بل الثقافية والاجتماعية.. والسؤال كان لدي حينها: كم حجم العمل الذي قد يحول هذه المناطق إلى جذب سياحي حقيقي.. يكمل هذا المشهد الطبيعي؟ بالنظر إلى هدوء وصمت الجبال والمنازل الصغيرة المتناثرة بعشوائية. ولربما جواب السؤال جاء بعد سنوات من هذه الرحلة. فهذا العام قدم عراب السياحة الأمير سلطان بن سلمان خططا تطويرية لسوق عكاظ، وهي في الحقيقة ما أعتبرها واحدة من النقاط الأهم، على الأقل لتليق بحدث ثقافي مهم. في الحقيقة لم أكن آمل ذلك العام، وهي المرة الأولى التي حضرت فيها سوق عكاظ أن أجد مهرجانا ثقافيا بالصورة التي وجدتها لاحقا. كنت أتوقع شيئا أقرب للتقليدي الرتيب. ربما لأن توقعاتي كانت صغيرة بعض الشيء، لذا فقد تجاوزت الصورة توقعاتي بكثير. العروض المسرحية والفعاليات الثقافية والشعرية، وفوق ذلك المناخ العام يدعمها فرسان وشخصيات عربية تمثيلية استحضرت تاريخ المنطقة. ورغم أنني لطالما كنت أقول إننا سجناء التاريخ والتراث، لكن هذا النوع من السجن اللذيذ حتما مختلف.
مهرجان سوق عكاظ ظهر بتطوير كبير بالمجمل. ولكم تخيل الشوط الذي أضافت فيه الموسيقى مشهدا مسرحيا سورياليا، أشبه بلحظات الفيلم الأخيرة التي تتسارع فيها الأحداث فجأة بعد أشواط عميقة من الدراما. هذا المشهد جمع السعوديين على المسرح رجالا ونساء، مع الاحتفاظ بالفاصل المألوف. تغطية mbc للحدث أيضا أضافت بعدا من الآمال، تلك الآمال التي لم يتمرس شعب في العالم كما تمرسنا في ممارسة قراءة المشاهد، لتلمس ملامح التغيير بالملليمتر. نلتقطها مثل حبات صغيرة. مشهد يصعب شرحه لغير السعوديين. لكنه كان مساء تاريخيا. ظهر الجميع في صورة واحدة مع الأمير المثقف، هو الرمز الذي لا يمكن حتى الآن تكراره في المشهد السعودي. وهو المجتمع الذي تؤدي الرموز الثقافية الحقيقية عامة فيه محطة لتشكيل الوعي ورسم الذائقة وتغيير المسارات. وخالد الفيصل لم يستحوذ على مكانة في الذاكرة السياسية كأحد كبار الأمراء السعوديين المؤسسين، بل في الذاكرة الاجتماعية والثقافية والفكرية والشعبية كقوة ناعمة متفردة بدوره الكبير، ليس فقط في سوق عكاظ بل عربيا من خلال مؤسسة الفكر العربي، وعالميا من خلال مؤسسة ومركز الملك فيصل، وبإبداعه الذي أسهم بشكل كبير في صنع هوية وحضارة سعودية. فليست السياسة هي التي ترسم شخصية البلاد الحقيقية طويلة الأجل، لكن الفن يفعل ذلك. ومن ينسى جهود خالد الفيصل وطموحاته التي وإن اصطدمت بعوائق حينا، إلا أنها نابعة من صدق حقيقي وتحدٍّ من أجل أمنيات لا توقفها خيبات الأمل. هو الإداري الفنان الرفيع الذي أسهم في ترسيخ صورة الفن السعودي رسما وكلمات، بحنجرة فنان العرب وصوت الأرض وغيرهما من الكبار على مدى عقود.. في زمن كانت فيه السعودية تستحدث صورتها الثقافية الجديدة في المنطقة. وكل تاريخ البلدان قابل للنسيان بلا حضارة وهوية وثقافة وفن. وكل قوى الوجود السياسي والعسكري تتعثر إذا لم يكن هناك قوة ناعمة ترسخ هذا الكيان. لا شك أن السعوديين يستعجلون التغيير أكثر من أي وقت مضى. ذلك الذي لا ينعش شكل المدن فحسب، بل روحها وروح مجتمعها وشعبها. سوق عكاظ نافذة بإمكانها أن تتسع لمزيد من الآمال، والسعوديون يستحوذون الآن على الحصة الكبيرة من المشهد الثقافي العربي. ليس مبالغة أن نقول ذلك حين تتسع الرؤية وتتضخم. المملكة تستحق دورا ثقافيا يليق بمكانتها، وليست المكانة السياسية والاقتصادية فحسب بل المكانة الجغرافية أيضا باعتبارها جزيرة العرب وتاريخهم. وليس أقدر من خالد الفيصل على قيادته وتشكيله. فشكرا خالد الفيصل، مني ونيابة عن كل من لم تصلك منهم تعابير الشكر.