فقه الفتوى
الذي يظهر للباحث والمتأمل، أن الاجتهاد الفقهي الذي يعني العلم بالأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية، ظل لقرون متصلة تقليدا في صورة اجتهاد يتتبع الشكل والإيضاح والبيان، والتفصيل، وإعادة الصياغة، ويتباعد عن الرجوع إلى الاستنباط في أصوله، وأدلته، وأدواته الموصلة، وفهمه الأخير، كتب الفقه اليوم في مجملها نسخة مكررة بصياغات مختلفة، وأدلة واحدة، وفهم ثابت لا يتقدم ولا يتأخر. وهي حصاد بشري فيه كل ما في عمل الناقص، وجهد العاجز، وسعي الضعيف.
السائح في "تويتر" والعابر على قنوات الفضاء المفتوح يجد أكثر العلوم استباحة، وانتهاكا لحرمته، هو علم الفقه والاستنباط، وأن سعي أجيال من العلماء، في تأسيس أصول الفقه وأصول الاستنباط وقواعد اللغة للتعامل مع الدليل الشرعي، والمساعدة على فهمه الصحيح، ومراده الحق، كل هذا يسقط بعد قراءة سريعة لكتيبات الفقه المعاصر التي تخلف من ورائها فتاوى تثير سخطا عليها من المختصين والفقهاء، كفتوى الأضحية بدجاجة، وفتوى الحج في كل الأشهر الحرم، وفتوى معاشرة الزوجة الميتة، وغيرها الكثير من الفتاوى البغيضة، والمكروهة، والمردودة شرعا وعقلا بما لا يعد ولا يحصى.
الفقه لا بد أن يتماشى مع كل زمان، وأن يتطور، لا بد له أن يعي الرؤية الكونية، والاجتماعية، والسياسية، والزمان والمكان، وكل تلك العوامل التي تحقق للفقيه الإذعان لها ولفهم مختلف للدليل الشرعي.
إن الواقع المعاصر هو الذي ينتج فهما جديدا، وإدراكا يستوعب حاجة الفرد، ويستوعب قضاياه العادلة، وتحدياته العسيرة، وهمومه المتعددة، والمتكاثرة، وبهذا تتغير الموضوعات للأحكام الشرعية، وهو الذي يمثل وعاء الحكم الشرعي في سعته وضيقه، ومقدار الجائز المقبول منه، والمردود على زمان أهله، وجهدهم المشكور، في حدود علم زمانهم، وفي حدود ما بلغهم، وانتهى إليه علمهم، وبلغته عقولهم، فكل زمان له عقله وإدراكه وسعته. وذاك مبلغهم من العلم والإدراك والإحاطة.
بكل صدق ما من أمة من الفقهاء، إلا وفي عصارة الفتوى منهم، ما يستدعي الستر، والشفقة، والرأفة في الحكم عليهم، بما لا يقبله عقل عاقل، ولا يرتضيه منطق، ولا يرضى عنه مجتمع سوي الفطرة. ولا الكلي المطلق، الجامع الموحد، لكتاب الله، ورسالته الخالدة، وهي الطهر والعدل، والمساواة.
بات من الملح التباعد عن الخصومة المذهبية، والتركيز على إصلاح الذات الجامعة للمسلمين، في كل مدارس الفقه، والستر على كل ما فيها، من عورات يعوزها الستر، واعوجاج يفتقر إلى التقويم، وجهل يقال منه العلم، ويغفر لهم لضعف الوسيلة، وقلة الحيلة، وعظيم المشقة، وشح الموارد في زمن طغى على أكثره، الفتن، والشتات، والحروب، وتغلب الظلمة والجهلة، وفتنة الناس في دينهم، وإذلالهم في معاشهم، وشؤون دنياهم، وتحقير العلماء.
ما زلنا نتمسك بآراء قديمة، وما زلنا نعود لقاعدة بالغة الخطورة، وهي "من لم يقل بهذا فهو كافر" و"من أنكر هذا فهو كافر". وبذا نصادر حق المجتهد في رفض القديم، وتفنيده، ثم البناء من جديد.. بذا يقوم الفقه القديم، بتلغيم اجتهاده ورأيه، باستباحة دم من يخالفه..! وهذا لا يخرج إلا عن الوحي الموحى من الله، والقول الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولكن لا ينسجم بحال مع الفتوى التي هي جهد مفتيها الذي لا يملك أن يلزم الناس بها، ولا يملك الحق في أن يدعي لنفسه العصمة، والصواب المطلق فيها، فكل من يكفر من يخالفه جاهل بالفقه وبأصول الاجتهاد وقواعده الأولية. ودعي علم.