إفصاح أفضل والتزامات أكبر
يتحسن حاليا ـــ ويزداد تعقيدا ـــ مستوى الإفصاح الذي تقوم به المنشآت، سواء المنشآت المدرجة في سوق المال أو غيرها مما يشملها نظام "قوائم" أو تلك التي تخضع للمحاسبة العامة. قدوم معايير التقارير المالية الدولية خلال الفترة القادمة يشكل نقطة تحول أساسية وتاريخية. يرافق المعايير المحاسبية سيل التشريعات التي تتبناها وزارة التجارة والاستثمار وهيئة سوق المال ومؤسسة النقد التي تتجدد بشكل سريع وتمس ما تقدمه المنشآت من إفصاحات والتزامات نظامية بشكل أو بآخر، إضافة إلى التشريعات الدولية التي تعتبر ملزمة لعدد غير قليل من المنشآت المحلية. وجود المملكة ضمن مجموعة العشرين يضعها في موضع الداعم والملتزم باتفاقيات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وغيرها من الجهات. إضافة إلى الاتفاقيات الضريبية الثنائية تتأثر الحركة الاستثمارية بنظام "فاتكا" الأمريكي وتتأثر كذلك المنشآت المالية بنسخ أخرى دولية من التشريعات المشابهة الإلزامية مثل الفاتكا البريطانية ومعيار التقرير العام CRS لتبادل معلومات الحسابات المالية. متطلبات الإفصاح عن أسعار التحويل بين المنشآت المرتبطة قادمة وهناك أخبار عن إلزام القطاع الخاص بآلية محددة للفواتير الإلكترونية ناهيك عن اقتراب تدشين ضريبة القيمة المضافة. كل ما سبق يصب في تحسين آليات الإشراف والضبط والحوكمة، أي في نهاية الأمر يصنع فائدة أكبر للمواطن، ولكن لا يخلو الأمر من تحديات.
كل متطلب إلزامي مستحدث يتعرض للمقاومة؛ حتى وإن ثبتت فائدته تشكل تكلفة إعداده إرهاقا إضافيا على المنشأة الخاضعة لهذا المتطلب وقد يتكشف عنه جوانب لم تكن قابلة للكشف من قبل. كذلك تثير بعض المتطلبات إشكالات فلسفية وشرعية مثيرة للجدل، سواء من باب المنفعة الاقتصادية وملاءمتها للوضع الراهن أو من ناحية عدالتها وتوافقها مع الأطر الشرعية. وأحيانا تصدق النظرية ويكذب التطبيق، فليس كل ما يشرع أو يتم تطبيقه تتم ممارسته بشكل فعال. بعض المتطلبات تشكل عبئا على الجميع، من الجهة المشرعة وحتى المنشأة الملزمة، لتتحول بسبب سوء التوقيت أو آلية التنفيذ إلى مشروع للهدر المنظم الذي لا يستفاد منه.
من يلاحظ سرعة التشريعات والالتزامات النظامية المتجددة يعرف أن التغيير يحدث بسرعة كبيرة جدا، ولكن على الرغم من أن معظم الأصوات تنادي بمزيد من التشريعات إلا أن تفعيل ما يتم إقراره من تشريعات أصعب كثيرا من إصدار هذه التشريعات. أرى أننا نفشل في عنصرين رئيسين عندما نراجع مدى توافق بقية العناصر مع سرعة التغيير، الأول، التعاطي الثقافي مع التغيير وهو يرتبط بإدارة عملية التغيير ومدى جودة عملية التدشين وأسلوب التوعية بالمتطلب الجديد. ضعف النتائج مشاهد في استمرار مقاومة عديد من التشريعات الإيجابية، "ساهر" ونظام الأراضي البيضاء من أقوى الحالات التي تستحق التحليل كمثال لهذه المقاومة. العنصر الثاني يرتبط بضعف التأهيل البشري المتخصص الذي يضمن تطبيق متطلبات هذا التشريع بشكل جيد وملائم. البحث عن سعودي متخصص في التخطيط الضريبي كفيل بتجسيد مشكلة أي تشريع ضريبي إيجابي. لا تفتقر مؤسساتنا التعليمية إلى التركيز الكافي في تخصص الضريبة فقط، بل حتى المتخصص البديل ـــ مثل المحاسبين والقانونيين والماليين، وهم الأقرب للتعامل مع التطبيقات الضريبية ـــ في حالة شديدة من الندرة.
ضعف المؤهلين المتخصصين يشكل مشكلة أكبر مع المتطلبات الدولية، لأن المشرع المحلي قد يأخذ في الحسبان كفاية الموارد البشرية الجاهزة للقيام بالعمل، وقد يؤجل التشريع أو يدمجه بعملية تجسير خاصة لإغلاق الفراغ التأهيلي بشكل مكثف، كما يحدث في قطاع بيع وصيانة الجوالات. ولكن المشرع الدولي لا ينظر لكل دولة على حدة، لذا تشكل هذه المتطلبات جنة المتخصصين الأكفاء الذين حازوا خبرة تمكنهم من القيام بالعمل ـــ هي فرصة جيدة لاقتناص المكاسب الوظيفية ـــ غير أن في معظم الحالات تتم الاستعانة بالمستشارين الدوليين لسد هذا النقص، سواء في المجالات الضريبية أو القانونية أو التقنية. وهذا بالطبع يشكل خسارة على مستوى المنشأة وعلى مستوى الاقتصاد. تستغل المكاتب الاستشارية هذه الفراغات التي تشكل إرهاقا للمنشآت لأنها تشكل فرصهم الأكبر التي لا تعوض، فهم دائما ما يملكون شبكة من المختصين قادرة على التدخل والبت في كل أمر فني متخصص! أعتقد أن النمو التشريعي – والإفصاح المالي على سبيل المثال – حدث جيد ومهم، ولكن تكلفته تطيح بفوائده إذا لم يتم الالتزام بثلاثة أدوار مهمة: ضبط عملية التغيير من المشرع، والاستعداد الجيد من المنشأة، والتخطيط المهني المتميز من الأفراد.