العسكر .. مؤرخ ومفكر مميز .. ذكراه في عقولنا وقلوبنا
أثار نبأ وفاة الصديق والزميل الدكتور عبدالله بن إبراهيم العسكر - عضو مجلس الشورى وأستاذ التاريخ في جامعة الملك سعود - بالغ الحزن والأسى، وأسبل عبرات الوداع، وما أقسى تلك اللحظات، ولا سيما الوداع النهائي لصديق اشتركت معه في لحظات جميلة وذكريات رائعة، وأعمال رسمية وأخرى شخصية.
وكل مصيبات الزمان وجدتها سوى فرقة الأحباب هينة الخطب
أشعر وزملائي في جامعة الملك سعود بحزن كبير وخسارة عظيمة برحيل هذا الرجل النبيل، ومن يعرف الدكتور العسكر لا بد أن يشعر بمقدار الخسارة برحيل هذا المؤرخ والمفكر والمثقف والمعلم، الذي أفنى حياته في البحث والتأليف والترجمة والدفاع عن قضايا الوطن، من خلال قلمه المبدع ومشاركاته الفاعلة في المؤتمرات والندوات، أو ضمن الوفود الرسمية التي تمثل المملكة في شرق الأرض وغربها.
لقد بدأت معرفتي بأبي نايف من خلال المشاركة في أعمال اللجان في كلية الآداب منذ 20 سنة تقريبا، وكان صاحب رؤية وفكر، يلفت الأنظار ويشد الانتباه بحديثه الذي يعكس ذكاء حادا ومعرفة واسعة. واستمر العمل معه أثناء تكليفي عميدا لكلية الآداب، فكان الدكتور العسكر على رأس قائمة الاختيار للجان العلمية المهمة التي تحتاج إلى فكر ورؤية وإنجاز، كما استعنت به أثناء عملي أمينا عاما لجائزة الملك خالد في اللجنة العلمية للجائزة، وشارك كذلك في صياغة مقترح تأسيس مركز الدراسات السكانية، ولا أخفي سرا أنني تعلمت منه الكثير واستمتعت بالعمل معه.
والدكتور العسكر متخصص في "التاريخ الإسلامي والتاريخ الوسيط للجزيرة العربية"، إلى جانب تخصصات فرعية في "تاريخ الشرق الأوسط الحديث وتاريخ إفريقيا والأندلس الإسلامي"، وقد عمل أستاذا ورئيسا لقسم التاريخ في جامعة الملك سعود سنوات طويلة، قام خلالها بالتدريس والإشراف على طلاب الدراسات العليا، وقد تميز بعطائه العلمي الوافر، وأخلاقه العالية، وتعامله الراقي مع زملائه وطلابه، فكان مثالا يحتذى به للأستاذ الجامعي الوقور والمميز، والمنتج، والواسع الاطلاع في مجال تخصصه.
لقد أثرى المكتبة بكتبه وبحوثه الكثيرة، مثل: كتاب "الحالة الاقتصادية عند عرب الجنوب"، وكذلك كتاب "تحقيب التاريخ الإسلامي"، و"اليمامة في صدر الإسلام" (بالإنجليزية)، و"فكر الشيخ محمد بن عبدالوهاب (مترجم)، و"طبقات النساء من ابن سعد" (مترجم)، و"التاريخ الشفاهي" (مترجم)، و"الأصول الإسلامية للتدوين التاريخي" (مترجم)، و"الدعوة الوهابية والمملكة العربية السعودية" (مترجم)، إلى جانب مقالات كثيرة منها "ذو القرنين بين الخبر القرآني والواقع التاريخي"، و"هجرة بني حنيفة إلى الأمصار الإسلامية في العصر الأموي"، و"تاريخ إمارة بني الأخيضر" (بالإنجليزية)، و"سكان اليمامة في العصر الأموي"، و"اليد العاملة في جزيرة العرب في العصر الوسيط"، و"التداخل التاريخي: قرامطة البحرين أنموذجا".
وقد تميز أثناء عمله في مجلس الشورى بمشاركاته الجادة وإسهاماته الفاعلة التي تخدم الوطن والمواطن، حسبما أشار بعض زملائه في المجلس، وشارك في تمثيل المملكة في المؤتمرات الدولية، إلى جانب تقديم استشارات إلى جهات كثيرة مثل: وزارة الثقافة والإعلام، وزارة التعليم، ودارة الملك عبدالعزيز، والهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض.
وعلى المستوى الإنساني، تشرفت بالسفر مع الدكتور العسكر إلى ألمانيا ومصر، فوجدت رجلا رائع الأخلاق ونبيل الخصال، لا تمل صحبته وحديثه الذي لا يخلو من الطرفة والفكاهة، فكما يقال "السفر يسفر عن أخلاق الرجال"، وفي الرياض تشرفت بين حين وآخر بزيارته في مكتبته المنزلية المتخصصة، لأستفيد من علمه وثقافته، وكان يشرفني بحضوره "منتدى النخيل" في منزلي، فيكون حضورا مميزا، يمتع بحديثه الحضور، ويثري الحوارات بآرائه المميزة التي تعكس علمه الوافر وثقافته الواسعة.
بوجه عام، كان الدكتور العسكر مؤرخا ومثقفا ومفكرا استثنائيا، يتحلى بقيم أصيلة وأخلاق عالية، وفوق ذلك كان باحثا متألقا يتحلى بقيم النزاهة العلمية. في الختام لن يستطيع الزمن مهما طال أن يمحو ذكرى "العسكر" من عقولنا وقلوبنا، رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.