القضايا الاقتصادية السعودية الـ 5: الرقابة والشفافية
إذا كنا نعاني مشكلة العلاقة المتشابكة جدا بين الاقتصاد وبين الحكومة، ومشكلة عدم ارتباط الراتب بالإنتاج مع مشكلة تفاوت الرواتب، فإن الفساد حتمي. وعندما أقول بحتمية الفساد فإنني حريص على تعريف الفساد بالفشل في تحقيق الأهداف الخاصة بكل وزارة أو إدارة حكومية. فالفساد ليس مجرد سرقة الأموال أو سوء استخدام السلطة أو أنه استغلال المنصب من أجل تحقيق مكاسب ذاتية، بل هو كل الأعمال والتصرفات التي تتسبب في فشل الإدارة في تحقيق أهداف المنظمة، حتى لو كان ذلك تحت ادعاء الحرص وتوفير الموارد. فمن المهم إدراك أن تحقيق الأهداف يتطلب أمرين معا، هما الكفاءة والفاعلية، وهما أمران مرتبطان فلا يفيد أي منظمة أن تكون ذات فعالية (أي أنها تحقق أهدافها المقررة لها) دون كفاءة في استخدام الموارد، فهي تهدر كثيرا جدا لتحقق القليل، ولا ينفع المنظمات أن تكون ذات كفاءة في استخدام الموارد دون أن تحقق الأهداف المرجوة منها، فهي توفر كثيرا من الموارد لكنها لا تحقق شيئا يذكر للمجتمع. نحن نريد الأمرين معا تحقيق الأهداف بكفاءة عالية واستخدام الموارد.
إذا المشكلة لدينا هي عدم الفصل الواضح بين الحكومة وبين الاقتصاد، ولهذا فإن أكبر معضلة تواجهنا هي الهدر الضخم في الموارد مع الفشل المستمر في تحديد الأهداف التي نسعى لها. ولأننا لا نربط الأهداف بالموارد المستخدمة لها، ومن ذلك رواتب الموظفين، فإنه إحساس الموظف بالوقت والإنجاز يكاد ينعدم لدينا. فمهما غاب الموظف أو تأخر عن عمله فإن كل هذا لن يؤثر على دخل الحكومة والمالية في شيء، فكل الإيرادات الحكومية الناشئة من موارد غير نفطية (ضرائب واستقطاعات وغيرهما) لا تتجاوز 9 في المائة في أفضل الحالات التي مرت على الاقتصاد السعودي. لهذا لا يشعر الموظف الحكومي (ولا حتى رئيسه في العمل) بأي أثر على نتيجة غيابه أو إهماله، ولا يشعر أي مسؤول أو وزير بهذا الأثر أيضا، مهما بلغ عدد الموظفين الغائبين عن العمل في كل وزارة (وهناك آلاف الغائبين حيث وصلت النسبة في بعض التحليلات الاقتصادية إلى 25 في المائة في عديد من الجهات) (بالرغم من ضعف الشفافية والتقارير في هذا الجانب)، وعلى الرغم من هذا فإن فصل أي موظف يتغيب عن الحضور هو أمر بالغ الصعوبة ليس من جانب النظام لكن من جانب المسؤولين الذين يعتبرون في هذا ما يشبه قطع الأرزاق. هذا الشعور (شعور قطع الأرزاق) ناشئ أساسا من عدم القدرة على ربط إنتاجية وحضور الموظف بالدخل الذي تحصل عليه الجهة أو الحكومة بشكل عام.
ولا شك أن الحل يبدأ كما أشرت في مقالات سابقة في فصل الحكومة عن الاقتصاد الإنتاجي وأن تعتمد الحكومة في دخلها على الضرائب والرسوم فقط والدخل الاستثماري، وأي جهة تحقق إيرادات بذاتها تتحول إلى القطاع الخاص بشكل كلي، حتى ولو كانت مملوكة للدولة. فمن المهم ربط دخل كل موظف بالإنتاج وأن تحاسب كل مؤسسة من خلال كفاءتها وفاعليتها. وحتى جهات مثل الجامعات والمستشفيات، يجب أن تعمل كقطاع خاص وأن تشتري الدولة منها خدمة التعليم والصحة لتقديمها للناس مجانا وبقدر كفاءتها وجودة إنتاجها تشتري الدولة منها، وهكذا حتى تبقى لنا مؤسسات سيادية في الدرجة الأولى كالدفاع والأمن.
هنا يجب تطوير أنظمة الرقابة في المملكة إلى مستوى أعلى. فما نشهده اليوم هو خلط لا نهاية له في المهام والمسؤوليات والتخصصات وحتى في المستويات الإدارية، لم أجد إلا القليل جدا، ممن يعي معنى الرقابة. الرقابة ليست مراقبة الناس، الرقابة هدفها عدم إهمال المؤسسات في تحقيق الأهداف. لا يوجد مسؤول لا يريد لمؤسسة أن تحقق أهدافها. لكن المشكلة أن بعض المسؤولين لا يعرف بالضبط ما أهداف مؤسسته، لذلك تجده يعمل من خلال نظرية تمرير الأوراق واستخدام الصلاحيات في الصرف والمناقلة بين البنود، ويعمل جاهدا على تحقيق وفر، بينما لا يدرك سوى القليل جدا من الأهداف التي يجب عليه تحقيقها. الرقابة بكل تفاصيلها وأنواعها لديها هدف واحد أساسي وهو الرفع للملك بتقارير ملخصها هل حققت الجهات أهدافها، أم لا؟ هل حققت هذه الأهداف بفعالية أم بهدر؟ فما يريده الديوان الملكي من الجهات الرقابية هو خدمات تأكيد بشأن مدى فعالية الجهات التنفيذية في تحقيق السياسات العامة للدولة وفي تحقيق أهدافها ضمن حدود مواردها. وعلى الرغم من أهمية سعي الجهات الرقابية إلى منع الهدر من خلال استرداد مبالغ تم صرفها بطريقة خاطئة لكن هذا ليس الهدف الأساسي من الرقابة. نريد تقارير شفافة وواضحة عن كل جهة، حول سؤال واحد مهم، هل حققت هذه الجهة الأهداف التي وعدتنا بها في بداية العام أم لا؟. الفساد هو أن تصرف الدولة رواتب ومصروفات على عقود وأعمال لجهات تفشل دائما وباستمرار في تحقيق أهدافها.
لكن وضعنا الرقابي مشتت بطريقة تجعل من المستحيل أن يتم رفع تقرير بهذا الشكل عن الجهات الحكومية. فديوان المراقبة العامة يبحث في كل شيء تقريبا، وهيئة الرقابة والتحقيق تبحث في كل شيء، وهيئة مكافحة الفساد تبحث في كل شيء، وفي كل جهة حكومية توجد وحدة مراجعة داخلية لا تعمل شيئا، وهناك إدارة للمتابعة تتابع كل شيء تقريبا، وهناك المراقب المالي الذي يراقب كل شيء تقريبا. ومع كل هذا فلا يوجد تقرير يصدر من كل هذه الجهات يخبرنا، هل حققنا أهدافنا أم لم نحققها فعن أي رقابة نتحدث؟ ولماذا ننفق كل هذه المبالغ على هذه الجهات الرقابية؟ الجميع يتفق على شيء واحد فقط هو مراقبة الناس والبحث في التبليغات التي ترسل من الأشخاص. تجد هيئة الفساد تأتي لتناقش رسالة وصلتها عن فساد الجهة، ثم يأتي ديوان المراقبة يسأل السؤال نفسه، وتأتي الرقابة والتحقيق لتحقق في الموضوع نفسه، على الرغم من أن موضوع الشكوى معروض على المحكمة الإدارية. إذا لدينا مشكلة رقابية صارخة، ولدينا كم لا كيف فيه. هذا والله أعلم وهو من وراء القصد.