وسائل التواصل الاجتماعي .. و«الاكتفاء الفكري»
الغزو الفكري، التمرد الفكري، الصعيد الفكري، الانغلاق أو الانفتاح الفكري، الجمود الفكري، الإبداع الفكري، الفكر النقدي أو التحليلي، مصطلحات مهمة ومؤثرة في مصير الأمم وقدرتها على التكيف والنهوض والمنافسة والتقدم في المضمار الحضاري بمكوناته كافة، وتتفاوت الدول والمجتمعات والأديان والطوائف في موقفها من هذه المصطلحات ومفاهيمها، الأمر الذي ولد صراعات فكرية داخل المجاميع والمجتمعات والدول والأقاليم والعالم أجمع نتج عنه تفاوت في مستويات التعاطي مع القضايا والمشكلات والتطور والتقدم والمنافسة والاستثمار الأمثل للقدرات والطاقات والإمكانات على مستوى الأفراد والدول والأمم.
يقول علماء النفس والاجتماع، إن الفكر يولد المواقف والاتجاهات وهذه تؤثر بدوره تأثيرا بالغا في القرارات والسلوكيات بعد أن تمتزج بالمحفزات الخارجية والدوافع الداخلية والتجارب والخبرات والحالة النفسية والفسيولوجية، ويعطي العلماء الفكر الراسخ في أذهان الأفراد والجماعات وزنا نوعيا عاليا في صناعة البيئة التي يعيش فيها أفراد المجتمع وطريقة تعاملهم مع بعضهم بعضا ومع الآخر ومع القضايا والمشكلات والمعطيات للتغير نحو الأفضل، وهذا واضح في قول الله تعالى "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، وبالتالي فالفكر السائد في أي مجتمع أو دولة يلعب دورا حاسما في قدرتها على التغير والتحول والتطور، ولذلك فإن الموقف من الفكر والمصطلحات المرتبطة به يعد عنصرا حاسما في ذلك بالتبعية.
ومن أدلة أهمية الموقف من الفكر موقف الغرب من الفكر النقدي باعتباره عنصرا حاسما في النهضة الأوروبية إذ إن الفكر النقدي يمكن الفرد أو أي مجموعة من تجاوز استنتاجات الآخرين للنظر في المعطيات في أي مجال كان لإيجاد قناعات شخصية أو جماعية من خلال التحليل، التفسير، التقييم، والاستدلال، وبالتالي الخروج باستنتاجات خاصة جديدة تربط ما توصل له الفرد أو المجموعة بما توصل إليه غيرهم من أصحاب الخبرة لدعم أفكار أو وجهة نظر الفرد أو المجموعة التطويرية في المجال الذي يعملون النقد فيه، وبالتالي فإن الفكر النقدي وسيلة حاسمة في نقد الواقع ومراجعته علميا للتطور نحو الأفضل والنهوض والتقدم والمنافسة.
وتأتي أهمية الفكر النقدي أو التحليلي خصوصا في أيامنا هذه، حيث انتشرت وسائل التواصل الإعلامي وبالتالي أصبح الإنسان يتعرض يوميا لكم هائل من الأخبار كحقائق على الرغم من أنها تختلط بالرأي أو الانطباع أو العاطفة وبالتالي فهي معلومات مضللة أكثر من كونها حقائق، ولذلك تتطلب نظرة حيادية تنقدها لتفصل الحقائق عما علق بها من إضافات مضللة بالتقييم والتحليل والتصنيف والربط وإيجاد العلاقات للوصول للفهم الصحيح للفكرة ليحمي الإنسان نفسه.
التمرد الفكري الناشئ عن عدم القدرة على التغيير بسبب الاكتفاء والانغلاق والجمود الفكري أمر غير محمود لأنه نوع من أنواع الصراع غير المنضبط الذي قد يستغله أعداء الوطن باستقطاب الأفراد المتمردين فكريا الذين ينوون إحداث تغيير إيجابي في أوطانهم في الأساس وتوظيفهم لمصلحة مخططاتهم التي تخالف أهداف المتمردين فكريا دون أن يعوا ذلك الأمر الذي يدخلهم في دوامات ومواقف وصدامات مع أفراد المجتمع ومفكريه لا يستطيعون التراجع عنها لاحقا ما يجعلهم أداة سهلة في أيدي أعداء الوطن بعد أن يصبح لا ظهير لهم سواهم.
ويبدو لي أنه حان الوقت أن يعي الناس أن لكل مجال فكره الخاص به، فالفكر السياسي ليس كالاقتصادي والاقتصادي ليس كالفكر الاجتماعي وهكذا وفكر المجالات كافة يتطور منذ نشأت الإنسانية حتى وصل إلى ما وصل إليه من مستوى وأن الدين الإسلامي جاء لعبادة الله وحده لا شريك له وجاء كنظام حياة بقيم ومفاهيم حاكمة محفزة.
ختاما: الخروج من الاكتفاء الفكري ليس ترفا، بل ضرورة ملحة في عصر التواصل الاجتماعي التقني والتدفق المعلوماتي الهائل وعلينا فهم مرد الاكتفاء الفكري كي نعالجه ونتيح إمكانية التغيير الفكري للجميع ونمكنهم من طرح أفكارهم ونقدها بطريقة حضارية لائقة دون صراعات كي يبقوا في حضن الوطن ومسؤوليه ومفكريه ليكونوا سواعد تطوير وبناء وإبداع بدل أن يقعوا في أحضان الغير الذي يوظفهم لغاياته الدنيئة.